السبت، مايو 28، 2011

لماذا القرآن؟؟!! 4صحبة القرآن

صحبة القرآن






http://belawa6an.blogspot.com/2010/02/2.html لماذا القرآن 2
http://belawa6an.blogspot.com/2010/02/3.html لماذا القرآن 3






حث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على تلاوة القرآن فقال:










"من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات؛ لا أقول: الم حرف؛ ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف".



















ورغبهم في بركته في الدنيا وشفاعته في الآخرة فقال:










"البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان".



















وقال:










"اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه".



















وحث على قراءة سور بعينها لما تحتويه من جوانب التشريع أو من أصول العقائد والأخلاق التي لا غنى لمسلم عنها فقال:










"اقرءوا الزهراوين؛ اقرءوا البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غيامتان أو غيابتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة".



















وقال: "إن سورة من ثلاثين آية شفعت لصاحبها حتى أدخلته الجنة" يعنى سورة الملك.



















وجعل أصحاب القرآن هم أهل الله، فقال: "إن لله أهلين؛ قالوا من هم يارسول الله؟ قال: أهل القرآن؛ هم أهل الله وخاصته".




























ورغب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أن يستمعوا إلى القرآن، وأن ينصت بعضهم إلى بعض فدعا يوما عبد الله بن مسعود، وقال: اقرأ علي القرآن؛ فقال رضي الله عنه: أقرأ عليك وعليك أنزل؟!، قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأ رضي الله عنه من أول سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى: " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا"، فقال صلى الله عليه وسلم: "حسبك"، قال: فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان.



















ثم دعا يوما أبيا بن كعب وقال له: إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، فبكى أبي فرحا، وقال: أذكرت هنالك يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: نعم، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة البينة؛ وأبي ينصت. فكان في هذه صلى الله عليه وسلم قارئا وكان أبي مستمعا.



















وفي كل مرة من المرتين وجه من العجب ولون من التربية وصورة من صور الأخلاق الراقية؛ بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم .



















ومن أعظم منه خلقا؟؟ وقد كان خلقه القرآن!!



















أوليس عجبا أن يرغب صلى الله عليه وسلم في الإنصات إلى ابن مسعود وقد أنصت إلى جبريل فسمع القرآن من صوت ملائكي لم يسمعه غيره صلى الله عليه وسلم، وأنى لأصوات البشر أن تبلغ صوت جبريل؟!، ولكنها التربية العملية والهداية الربانية والتواضع النبوي الكريم، حتى ينصت الكبار إلى الصغار، والمعلمون إلى تلامذتهم، ثم يتدبرون ويخشعون ويذرفون الدمع بين أيديهم، فيكونوا مثلا عليا في الإنصات والخشوع والانكسار.



















ثم العجب أن يكون صلى الله عليه وسلم القارىء وغيره منصتا إليه، وقد يصنع ذلك من يريد التأكد من استظهارالسورة أو التحقق من صحة التلاوة واستقامة الأداء، وليس النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة لضبط شيىء من هذا قل أو كثر، ولكنه التعليم والتربية والنموذج الذي يقدمه صلى الله عليه وسلم.



















لم يقنع النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بالوقوف عند حد القراءة مع ضبط التلاوة وإجادة الأحكام وحسن الصوت وجمال الأداء؛ حتى قال صلى الله عليه وسلم: "أول من تسعر بهم النار ثلاثة: وذكر منهم قارىء القرآن".



















واعترض أعرابي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوزع الغنائم ويقسمها قائلا: اعدل فإنك لم تعدل، إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فغضب عمر، وهم بقتله؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "دعه ياعمر،إنه يخرج من ضئضئي هذا قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، أو قال: لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، تحقرون قراءتكم إلى قراءتهم، وصلاتكم إلى صلاتهم؛ يقاتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان".



















الوقوف عند حد القراءة مذموم، والمطلوب: الوصول إلى حد الصحبة: "صحبة القرآن".










لقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم أن القرآن يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، ولم يقل لقرائه، وإنما قال: "لأصحابه"، بل بلوغ حد الأهلين: حبا ولصوقا، وشغفا وهموما، وانشغالا على كل حال.



















إن المقصود من القراءة أن تبلغ حدا من التأثر بالقرآن هو تأثر الصاحب بصاحبه؛ قال صلى الله عليه وسلم: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل"، وقالت العرب فى أمثالها: "الصاحب ساحب"، وقال الشاعر: عن المرء لاتسل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي.



















بل المطلوب أن تنشغل به شغل الابن البار بأبيه، والأم الحانية بولدها، والأخ الشفوق بأخيه، فتسهر حتى ينام، وتتعب حتى يرتاح، وتعطى من وقتك ومالك وجهدك وفكرك حتى تذوب أو تفنى.



















ليس القرآن لونا تدهن به الظواهر، ولا دهانا تطلى به البشرات، وإنما هو صبغة للسرائر، ومنبت لكل خاطر: "صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون".




























إذا هو بلوغ حد الصحبة والارتقاء إلى مستوى الأهلين والاصطباغ بالقرآن حتى يرجو أن يصير قرآنا يمشى بين الناس




























وإن ذلك ليتطلب الإكثار من التعرض للقرآن تلاوة وإنصاتا وتدبرا، فيتعين على صاحبه أن يلقاه مرارا وتكرارا، وأن يتناوله بفنون عديدة وطرائق متنوعة، وأن يكون له مع القرآن أوراد وأوراد، ثم أن يعرف هدفه من القرآن وغايته من صحبته؛ وهي الهداية والانتقال من حال إلى حال: "إن هذا القرآن يهدى للتى هى أقوم".




























وللحديث بقية




























والله من وراء القصد










الاثنين، مايو 23، 2011

افرجها علينا ياااااااااارب

افرجها علينا يارب



ذات ليلة ونحن في سجن برج العرب سمعت صوتا رج الزنازين:



"بحق لا إله إلا الله...... افرجها علينا ياااااااااارب"



فتجاوبت معه بعض الزنازين...........:



يااااااااااااااارب



كان الصوت مرتفعا؛ يحمل من الضجيج والصخب أكثر مما يحمل من الدعاء، وكان تجاوب بعض المعتقلين معه يحمل مع الضجيج و الصخب خفة و استهتارا.



أظهرت غضبى واستيائي، وحدثت من حولي في هذه الإساءة، ولم أكن أعرف صاحب هذا الصوت الصاخب المجلجل.



في الليلة التالية سمعت نفس الصوت، وكان التجاوب بنفس الطريقة، لم أعلق، بينما نظرإلى بعض إخواني، وكأنهم ينتظرون تعليقا آخر، ونظرت إليهم ممتعضا صامتا.



وفى الليلة التى بعد تلكما الليلتين جاءنا الصوت الصاخب المجلجل، وتبعه التجاوب المستخف المستهتر، فإذا بأحد أخواني يقول: علي فكرة صاحب هذا الصوت هو صديقك الأستاذ "فلان".



عجبت: كيف يصدر مثل هذا؟؟



عن مثل هذا!!!



لقيته من غد، وقبل أن أفاتحه قال بأدب جم وباحترام شديد: بلغني اعتراضك علي ما كان مني ثلاث ليال متتابعات، وإني لمتوقف من الليلة، وممتنع من الآن؛ تقديرا لرأيك واحتراما لرغبتك، وإن اختلفت وجهات نظرنا، فوعدته أن نلتقي في مناسبة أخري قريبة لنتحاور بالتفصيل، فلما حيل بيني وبين ذلك آثرت الكتابة إليه:



بسم الله الرحمن الرحيم



أخي الحبيب الأستاذ "فلان"



السلام عليكم ورحمة الله



وبعد




فإنه لمن دواعي فرحتي وسروري، ومن أسباب سعادتي وحبوري أن أتواصل معك كتابة بعد أن حالت الأسوار بين المشافهة، ونعم القضاء قضاء الله، وخير القدر قدره، ولعل في الكتابة من الميزات والفوائد ما ليس في المشافهة، وإن كانت الأخرى أحب إلي القلب وأمتع للنفس؛ إذ بها تتلاقى الوجوه فتلذ الأعين برؤياها ناضرة، وتسعد الأرواح بها حاضرة، أضف إلي ذلك تغشي الرحمة وتنزل السكينة وحف الملائكة.



لكن الكتابة تتيح الفرصة بعد الفرصة لمراجعة النفس، وتردد القلب بين الصواب والأصوب وبين المثال والأمثل، وتحمل صاحبها علي انتقاء الأنفع من الألفاظ والكلمات والأرفع من الجمل والعبارات، ثم هي بعد ذلك تمنح القارئ فرصة التدقيق في المعاني، والتفهم للمقاصد، وإعادة قراءة الكتاب مرات ومرات، وتكرار تلاوته في مختلف الحالات حتى تنقدح الفكرة في ذهنه، وتستقر المعاني في قلبه، فيقبل بانشراح، أو يأبي بارتياح، فيرفع الكتاب فوق رأسه إن شاء أو يتخذه ظهريا، أو يلقيه حيث شاء من غير أن يؤثر ذلك سلبا في نفس صاحبه أو إيجابا في ضمائر الآخرين، ويبقي الود صافيا والحب نقيا وإن ذهبت الآراء مذاهب شتي وتنوعت الفكر حتى ........ وحتى......... وحتى .......



لقد بقيت كل يوم أمني نفسي بلقائك حتى خشيت غرور الأماني فعقدت العزم علي الكتابة ليلة الخميس فما غمض جفني إلا والكتاب مختوم.



أخي الحبيب الأستاذ "فلان"



سمعت ذلك الهتاف أول ليلة فتألمت منه، وقلت ما عندي بشأنه لمن حضرني من غير أن أعرف مصدره، ثم تكرر ذلك في ليلة تالية، فلما كانت الثالثة أخبرني بعض أحبتى أنه:"أنتم"؛ فتألمت لكم.



أخي الحبيب: لا شك أن النزول أيسر من الصعود، وأن الارتقاء شاق ومكلف، ومثال ذلك: تارك نفسه للنزول بفعل الجاذبية، وصاعد إلي أعلي مرتق سلما رأسيا؛ فالأول بلا جهد نازل وبأسرع ما يكون، والثاني متعب مكدود مرهق منكود تلهث أنفاسه ويتصبب عرقه، وكل لحظة من لحظاته دهر طويل وثوانيه ليست ثوان، وإنما هي ساعات.



ولا شك أننا مأمورون بالنظر في أمر الدين إلي من هو فوقنا، وبالنظر في أمر دنيانا إلي من هو دوننا، حتى نظل مترفعين عن الدنايا مرفوعين لأعلي عليين، وليس لارتفاعنا من سقف دون عرش الرحمن، وليس لصعودنا من نهاية سوي مرافقة الأنبياء، وليست تلاوة القرآن يوميا وإعادة الختمة علي الأقل مرة شهريا إلا لون من ألوان النظر الدائم إلي المثال الأعلى والتطلع المستمر إلي النموذج الأرقي، وويل لمن نظر إلي أسفل.



ولا شك أيضا أن وجهات النظر تختلف باختلاف الدوافع والأسباب وباختلاف الواقع المرئي، وكذلك باختلاف المآلات المتصورة والنهايات المتوقعة.



لذا وجب عند اختلاف وجهات النظر حسم هذه الثلاث والتباحث حولها بلا سأم ولا ملل -وإن طال الوقت- طالما كانت الفائدة مرجوة والعاقبة محمودة.



"ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله والتعاون علي الوصول إلي الحقيقة من غير أن يجر ذلك إلي المراء المذموم والتعصب". حسن البنا فى رسالة التعاليم.



وفرق ضخم -أخي الحبيب- بين وجهات نظر تختلف باختلاف المصالح والمفاسد فتتحمل أخف الضررين وتدفع أعلي المفسدتين، وأخرى تختلف باختلاف الأهواء ومطامع الأشخاص وتطلعات الراغبين في الرياسات وآمال الغارقين في الشهوات، ولا أحسب أن وجهات نظرنا إلا من النوع الأول، ونعوذ بالله من سوي ذلك.



كما أن وجهة نظر تؤيدها الشريعة أولي بالقبول عند الأتقياء من وجهة نظر لا سند لها إلا سيف المعز و ذهبه ، أو جزرة الحمار وعصاه.



كان لابن عمر في قاتل النفس فتويان:



الأولي: أنه يتوب ويجتهد في التوبة لعل الله يقبله.


والأخرى: أنه لا توبة له.



وليس ذلك عن هوي نفس أو نزغة شيطان ، ولكن الأول قد تلبس فلا يقطع عنه الرجاء، والآخر قد تنزه فيمنعه من سفك الدماء.



إن مما درجنا عليه حتى ألفناه أن:



"حسنات الأبرار سيئات المقربين"



وأن الناس منازل ودرجات، وأن ما كان مكروها فعله من العوام كان من الدعاة أشد كراهة، وهو عند الفضلاء ومن يتأسي بهم يوشك أن يكون حراما وممنوعا، وأن ما كان مستحبا من عامة الناس فعله كان من الدعاة أشد استحبابا وهو في حق الفضلاء ومن يتأسي بهم واجبا ومفروضا.



فلو أن أحدا من الفضلاء كان يدعوا الله بآداب الدعاء العشرة ثم ترك منها يوما أدبا واحدا لاعتبرناها هفوة وعاتبناه، ولرأيناها عثرة فأقلناه.



ولو أن أحدأ من العوام كان يدعو البدوي أو البوصيري أو الدسوقي، ثم تحول فدعا الله تعالي بلا أدب يعرفه لاعتبرناها نقلة فشكرناه، ولرأيناها إحسانا فأثنينا عليه وأثبتناه، لا لترك الأدب ولكن للتحول عن الحرام إلي الحلال، ثم لصحبناه ولا نزال نرتقي معه وننظر إلي أعلي؛ إلي المثال الأوفى والنموذج الأرقي؛ ونحن نعلم أننا لن نبلغه، ولكن شرف المحاولة ليس بأقل من شرف الوصول.




والآن دعني أفتح قلبي وأطلق لقلمي العنان لنتذاكر سويا بعض ما تعلمناه من آداب الدعاء، ومذاكرة العلم تسبيح وصلاة، وقد تري من وجهة نظرك أن كثيرا مما ستقرأه الآن لا علاقة له بموضوعك، فأنت وذاك.



وإنى لمعترض علي ما سمعت من هتافك:



"بحق لا إله إلا الله...... افرجها علينا ياااااااارب"



واعتراضى من جهتين:



الأولى: من جهة اللفظ والمعنى




والأخرى: من ناحية الشكل والصورة




فأما الاعتراض علي اللفظ والمعني فيشمل أمرين:



الأمر الأول:



إنه ليس لنا علي الله من حق إلا ما أوجبه هو علي نفسه تلطفا بعباده ورحمة بهم وتطمينا لضمائرهم ومخاطبة لهم بما يعرفون من لغتهم، فإن اللغة قد وضعت لمعان بشرية بحتة؛ فإذا استعير بعضها لمعان إلهية ربانية فإنما هي لتقريب معناها إلي أفهام البشر، ولكنها ليست علي حقيقتها التي تعارف الناس عليها، وإلا فكيف للفظ مخلوق وضع لمعاني البشر المخلوقين أن يحيط بوصف إلهي أو بمعني رباني.



مثال ذلك:



قال النبي صلي الله عليه وسلم لمعاذ وهو رديفه: يا معاذ أتدري ما حق الله علي العباد؟ قال معاذ: الله ورسوله أعلم، فقال صلي الله عليه وسلم: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ثم قال: يا معاذ أتدرى ماحق العباد على الله إن هم فعلوا ذلك؟ قال معاذ: الله ورسوله أعلم، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: فإن حقهم ألا يعذبهم بالنار.



فإذا كانت كلمة: "حق" في معاملات العباد بعضهم بعضا تعني الحق المكفول الذي يطالب به صاحبه بقوة وجرأة وشجاعة، ويسأل المقصر عن الأداء ويكون موضع اللوم والذم والعقوبة، ويقول صاحب الحق بكل صراحة: "هذا حقي" فإن هذا لا ينطبق علي الله، فليس للعباد حق بهذا المعني، يقول النبي صلي الله عليه وسلم: "لا يدخل أحد الجنة بعمله"، قالوا: حتى أنت يا رسول الله، قال: "حتى أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل".



وهل وفيناه حقه حتى نسأله الوفاء؟؟!!


أو لم تكن لنا سقطات وعثرات وأوقات عجب وأزمنة رياء؟؟!!


وهل لم يوف حتى سألناه الوفاء؟؟!!


وهل وفاؤه واجب عليه!! أم محض فضل ومنة وعطاء!!



سل الله فضلا ولا تسأله حقا



وأما الأمر الآخر:


فإن هذا الحق الذي أوجبه علي نفسه سبحانه مجازا ليس هو شئ في الدنيا وإنما هو:



"ألا يعذبهم بالنار"



فليس من حق لا إله إلا الله ألا يبتليك أو أن يخرجك من محبسك أو أن يكثر مالك وولدك، فليست الدنيا دار جزاء وإنما هي دار عمل، وإلا فإن من هو أصدق منك في قولها ومن هو أخلص منك في اعتقادها قد ألقي في النار، أو أخرج من وطنه طريدا ملاحقا، أو قتل ووضع رأسه في طست من ذهب مهرا لبغي، أو نشر بالمنشار حتى سقط شقاه، أو مشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه.



أما "حق لا إله إلا الله" فيجوز أن يسأل بعضنا بعضا به؛ لأنها التزامات هذه الكلمة وحقوق العباد وواجباتهم تجاه بعضهم بعضا المترتبة علي قولها واعتقادها:


"حق المسلم علي المسلم خمس: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا مرض فعده".



وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" أي ما يترتب علي قائلها من واجبات والتزامات تجاه مجتمعه وأمته.


فالأمر الآخر من الوجه الأول يأبي علينا أن نعتقد أن الفضل في الخروج يوما من المحبس.



لقد كان لي صديق حبس عاما في1981، ورفل بعدها في النعيم، وذات يوم كان يقص علي أحداث ذلك العام فتنهد في حسرة قائلا: كنت وقتها في عافية أنا اليوم أحوج ما أكون إليها، كنت بين الجدران في عافية أفتقدها اليوم وأنا بين أهلي وزوجي وولدي؛ إن العافية هى عافية القلوب والنفوس وليست مجرد عافية الأموال والأبدان".



يقول البوصيري:



صلاح أمرك للأخلاق مرجعه فقوم النفس بالأخلاق تستقم


فالنفس من خيرها في خير عافية والنفس من شرها في مرتع وخم.



العافية إيمان بالله ومعرفة به تورث القلب سكينة وتسكب في النفس راحة وطمأنينة حتى يصير صاحبها مع الله وهو بين الناس، يظنونه معهم وهو في الحقيقة لم يبرح رحاب مولاه، ويحسبونه لم يفارقهم وهو في نفس الأمر قد سبقهم إلي رضاه، وارتقي المدارج إلي علاه، بينما هو يأكل مما يأكلون منه ويشرب مما يشربون، وربما ضاحكهم فضحكوا أو تراه بينهم وهم يلهون فتظنه من اللاهين.



سل الله العافية بصدق ودع الله يختار لك مكانها وظروفها، وليست العافية فراشا وثيرا ولا ثوبا قشيبا ولا هي طعاما هنيئا مريئا، وإنما العافية قلب يذكر الله حتى يطمئن، ونفس تلوم صاحبها حتى تطمئن، وجسد يجهد في سبيل الله حتى يطمئن.



سل الله العافية بصدق ودعه يختار لك ثوبها، فما نزلت البلوي إلا لعافيتك وقد يمنحك أجرها، وإذا كان الحبس بلوي فقد يكون الخروج بلويان والمعصوم من عصم الله.




وأما اعتراضي علي الشكل والصورة:



فليس الأمر مجرد هتاف وإن وصفته بذلك بداية كتابي إليك، وإلا فهو ذكر ودعاء يخرجه ارتفاع الصوت عن مقصده فيذهب بما فيه من جلال وهيبة وخشوع.



(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (لأنفال: من الآية2)


(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (لأعراف:55) (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (لأعراف:56)


فهل رفع الصوت تضرع؟؟!! وهل يصاحبه خوف وطمع؟؟!! ثم أضف إلي ذلك ما في رفع الصوت من ضياع هيبة المنادي حتى نهي الله عنه إذا تعلق بحضرة نبيه صلي الله عليه وسلم واعتبر فاعليه: "لا يعقلون" سورة الحجرات، فكيف إذا تعلق ارتفاع الصوت برب محمد صلي الله عليه وسلم؟؟!! وهل يقبل أحدنا أن يجهر الناس باسمه نداءً كلما طلبوه.



إن الرب يحب أن يرى عبده بين يديه منكسرا، وهي حالة قلب يعبر اللسان عنها برقيق الكلمات وينطقها الفم بخفيض الأصوات و حاني النبرات:



"إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان علي الفؤاد دليلا"



أخي الحبيب



إن هذه العبارة القصيرة زمنا البعيدة صوتا ومدي لهي: "الدعاء العريض" الذي حذر منه القرآن: "وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ" (فصلت:51)


ولم يقل "طويل"؛ فإن الدعاء الطويل مناجاة آلف وصوت محب راغب، وهو سنة نبينا صلي الله عليه وسلم الذي كان يدعوا الله دعاء طويلا يعدل قراءة سورة البقرة عندما يرقي الصفا أو يصعد المروة أو عند وقوفه بعرفات أو عند رمي الجمرات بين الصغرى والوسطي ثم بين الوسطي وجمرة العقبة، كل ذلك بآداب نبوية كريمة وأخلاق قرآنية عظيمة، وقد يعلو صوته ولكنه لا يرتفع وتلك نكتة بديعة وفرق جوهري يحتاج إلي متأمل.



وأما "العريض" فهي صرخة غريب ونداء نافر شارد ارتفع صوته وقصر زمانه فانتفت عنه صفة الطول ولم يبق إلا "العرض" المشين.



سمع النبي صلي الله عليه وسلم رجلا يدعو فقال: "عجل هذا"، فلما قضي الرجل دعاه النبي صلي الله عليه وسلم فقال: "إذا دعوت الله فاحمد الله أولا ثم صلي علي ثم سل الله حاجتك". وهذا دأب الخواص من الصالحين، أما الفضلاء ومن يتأسي بهم ومن باعوا أنفسهم لله فالثناء عندهم أولي من السؤال والحمد أجدر بهم من الطلب.



وقد روي النبي صلي الله عليه وسلم عن رب العزة سبحانه:



"من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل مما أعطي السائلين"



ودعاء الحال عندهم خير من دعاء المقال، والتفويض في اعتقادهم أبلغ من الإلحاح في التعيين وهذا دأب الأنبياء وأدب المرسلين:



أما تفويض أيوب فإنه لم يسال الشفاء، وإنما تلطف في عرض حاجته (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (الأنبياء:83) ففوض فأجابه الله (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء:84)


وأما زكريا فلم يسأل الولد ابتداء، وإنما سأل ناصرا ومعينا وحليفا يعين علي الدعوة: ( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) مريم الآية5، 6؛ فلما رأى الآيات الباهرة فى محراب مريم ومثلت القدرة أمام عينيه: "قال رب هب لى من لدنك ذرية طيبة" فاختار الله له أن يكون الولي ولدا من صلبه،



وأما يونس فلم يختر الخروج من بطن الحوت وإنما اعترف بذنبه وأقر بخطئه وأثني علي الله "وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ" (الأنبياء:87) ففوض فاختار الله له الخروج ( فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ) (الصافات:145)



وأما إبراهيم فلم يختر النجاة من النار وإنما قال: "علمه بحالي يغني عن سؤالي"..... " فأنجاه الله من النار "





وقبل الختام أخي الحبيب: أدعك مع طائفة من الحكم العطائية:



* إرادتك التجريد مع إقامة الله لك في الأسباب، من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب مع إقامة الله لك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية.



طلبك منه اتهام له، طلبك له غيبة منك عنه، وطلبك لغيره لقلة حيائك منه، وطلبك من غيره لوجود بعدك عنه.



ربما منعهم من الطلب حسن الأدب.



وأخيرا: فما أخذ منك إلا ليعطيك، فلا تنظر إلي ما أخذ منك فإنه الأدنى والأقل، وانظر إلي ما أعطاك فإنه الأعلى والأجل.



والناس في ذلك ثلاث:



ظالم لنفسه: لا يري إلا السلب والأخذ فهو نازل أبدا.



سابق بالخيرات: لا يري إلا المنح والعطاء فهو صاعد أبدا.



ومقتصد: يري السلب ويرقب العطاء، وقد يصبر حتى يبلغ ما يريد، أو لا يصبر فيعيد الله إليه ما أخذ منه، أو يعيده إليه، فيبدأ من حيث ابتدأ ويعود إلي حيث قد بدأ؛ من غير تقدم ولا ارتقاء، ولا صعود ولا هبوط.



ماأخذ منك لحاجته فإنه هو الغنى، وإنما أخذ مالا ينفعك ليمنحك مايرفعك، سلبك ماأنت عنه غنى ليعطيك ماأنت فقير إليه؛ولما كان المحل لايتسع إلا لأحدهما كان لابد من إفراغه أولا من التافه الأدنى ليملأه بعد ذلك بالقيم الأعلى، فاصبر على زمن الفراغ حتى يحين وقت الملإ، هذا إذا كنت مقتصدأ، أما السابق فقد امتلأ بالله فلا يفرغ منه أبدا، وليس عنده فراغ يمتلأ بغيره.



"قل الله ثم ذرهم"



ماذا فقد من وجد الله؟! وماذا وجد من فقد الله؟!




سبحانك اللهم وبحمدك


أشهد ألا إله إلا أنت


أستغفرك وأتوب إليك


والله من وراء القصد

الثلاثاء، مايو 17، 2011

الحديبية والثورة

الحديبية والثورة




كان خروج النبى صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمراً وحيا، وكان منعه من دخولها وإحصاره فى الحديبية وحياً، وكان الصلح وحياً حتى عدّه القرآن "فتحاً"؛ وعلى الرغم من ذلك غضب عمر والمسلمون ورأوا ذلك إجحافاً بحقهم وتنازلاً عن دينهم، فلم يحملهم النبي صلى الله عليه وسلم على مراده حملاً، ولا أرغمهم على روءاه إرغاماً، وإنما فعل ما هو به قانع حتى أقنعهم فعله صلى الله عليه وسلم، ففعلوا بينما لم يكن الكلام مقنعاً، وكان التجرد شعاراً، والإخلاص لله دثاراً؛ لا يظن أحد بأخيه غير ذلك؛ راضياً كان أم ساخطاً، محباً كان أم كارهاً.



لم يثن عمر عن مشاعره ورغبته وعظ النبى صلى الله عليه وسلم ولا زجر أبى بكر رضى الله عنه، ولم يقنعه بجدوى الصلح نزول القرآن، كيف وقد سمع بنود الصلح فرآها تنازلا، وراى أبا جندل يعاد إلى قريش بعدما جاء مسلما، ورأى "الرحمن الرحيم" تمحى، و"رسول الله" تزال. إنما قنع عقله ورضيت نفسه بمرور الزمان ودوران الليالى والأيام.



فالزمان خير شارح للسنة


والدهر خير مفسر للقرآن.



كم من أحداث عظام وحوادث جسام هى عند حدوثها فوق العقول وأعلى من مدارك الأفهام، والناس إزاءها درجات وألوان: فواثق مقتحم، وأحمق ملتحم، ومتردد متلعثم، ومتروٍ منتظر: يرجو أن ينقشع الغبار وتنجلى الحقائق فيتخذ القرار، وكلٌ فى ذلكم يبتغى النجاة، ولامطعن فى نية ولا قدح فى إخلاص، وليس من حسن الأدب تهوين ولا تخوين، إذ التماس العذر فى تلكم الاحوال واجب؛ بل الواجب الذى لا عذر فى تركه أن يكون التجرد لله منطلقه؛ قام أو قعد، تردد أو تريث، بعيداً كل البعد عن هوى النفس وميل القلب ومصلحة العشيرة ورغبة القبيلة وزينة الدنيا وغرور الشيطان، وواجب أخر لا عذر فى إغفاله وهو سيادة الحب والود بين القلوب، إذ اختلاف العقول وارد أما اختلاف القلوب فلا يورد إلا المهالك.


لا تحملني علي تبني فكرتك واعتناق مذهبك، كما أني لاأحملك علي التزام طريقي ولا الارتباط بدعوتي، ولكن أذكرك التجرد، وتعظني بنبذ العصبية والخلوص من الهوي، فأذهب يميناً وتنطلق يساراً، ونعود آخر اليوم لنتعانق ونحسب مكاسبنا ونحصي خسائرنا، وذلك كل يوم حتي ننطلق يوماً معاً يميناً أو يساراً، فنقتسم رغيفاً واحداً، أونموت بضربة واحدة، وقد تدفنني بثيابي ولا صلاة، وقد أصلي عليك.



فالزمن جزء من العلاج.



كان بعض الناس في بداية الثورة يقولون إنها خروج علي الحاكم، وهم اليوم يلعنونه ويشاركون في قطف الثمار.


أراد الحاكم في أول لقاء له بعد الثورة أن يستدر عطف الجماهير؛ فبكي بعضهم تجاوباً، فلما خرج عليهم صبيحة الخطاب بالخيل والإبل والبغال؛ رموه بالأحذية وضربوه بالنعال.


كان كثير ممن ينعتون بالثقافة قد رفضوا تعديل الدستور، ورأوه عودة إلي ما قبل الثورة، فلما سعت فلول الحزب الوطني للوقيعة بين الشعب وجيشه اعترف بعضهم أن الذين أجابوا بنعم كانوا أبعد نظراً وأقدرعلي استشراف المستقبل.



فالزمن جزء من العلاج


وقد يكون هو العلاج.




والله من وراء القصد


الأربعاء، مايو 11، 2011

شفافية الحديبية

شفافية الحديبية





رأى النبى صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم أنه أتى البيت الحرام وأنه يطوف به، ولما كانت رؤيا الأنبياء حقا فقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن يتجهزوا للعمرة فأحرموا من ذى الحليفة ولبوا، وساقوا الهدى يحدوهم الشوق إلى البيت الحرام طوافا وسعيا وعبا من ماء زمزم، وكان ذلك فى ذى القعدة من السنة السادسة من هجرته صلى الله عليه وسلم.





بلغ النبى صلى الله عليه وسلم قريباً من مكة فبركت به ناقته فصاح المسلمون: "خلأت القصواء"!! أى انها بركت من شدة التعب والإعياء، ولكن الني صلى الله عليه وسلم الخبير بناقته دفع عنها التهمة وألقى عنها الشبهة فقال واثقاً: "ماخلأت القصواء وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة".





ليس من خلق القصواء أن تبرك عياً ولا أن تكف عن السير رهقاً، وإنما حبسها الذى حبس الفيل أن يبلغ البيت الحرام، وماحبسه إلا الله.





إذاً كان خروج النبى للعمرة وحْياً، وكان منعه من دخول مكة وحْياً، وهو المعصوم المبلغ عن ربه، هنا قال صلى الله عليه وسلم: "لاتدعونى قريش اليوم إلى خطة يعظمون فيها الرحم إلا أجبتهم إليها".





خرج من مكة رجال ليلقوا النبى صلى الله عليه وسلم الواحد تلو الآخر، وعاد كل منهم ليخبر قريشاً بما رأى وبما سمع من شأن محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين معجب مشدوه و حاقد مغرور؛ حتى جاء سهيل بن عمرو فاستبشر النبى صلى الله عليه وسلم بقدومه، ومضى سهيل يفاوض النبى صلى الله عليه وسلم على العودة من حيث أتى ومضيا يتفقان على الصلح:



أن يرجع محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه عامهم هذا، وأن يعودوا من قابل ليس معهم سلاح إلا سلاح الراكب السيوف فى أغمادها، وأن توضع الحرب بينهما عشر سنين، وأن يرد محمد من أتاه من قريش مسلماً، ولا تلتزم قريش برد من أتاها من عند محمد مشركاً، وأن من شاء أن يدخل فى حلف محمد وعقده دخل فيه، ومن شاء أن يدخل فى حلف قريش وعهدها دخل فيه.





رأى عمر رضى الله عنه فى بنود الصلح إجحافاً بالمسلمين فوثب إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: ألست رسول الله؟! قال: بلى. فقال عمر: أليسوا المشركين؟!... ألسنا المؤمنين؟!... ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟!... كل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: بلى....؛ حتى قال عمر: فلم نعط الدنية فى ديننا؟!... فيجيبه صلى الله عليه وسلم: أنا عبدالله ورسوله، ولن يضيعنى. فيقول عمر: ألست قلت لى أنا نأتى البيت ونطوف به؟!..... فيقول صلى الله عليه وسلم: أقلت لك العام؟!... فيقول عمر: لا... فيجيبه صلى الله عليه وسلم: فإنك آتيه ومطوف به.





أترى عمر أحرص من النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام وأغير عليه منه؟ّ!.. كلا وألف كلا.



أترى عمر أدرى بمصلحة المسلمين من النبي صلى الله عليه وسلم؟!... كلا وألف كلا.



أترى عمر تدخل فيما لا يعنيه وناقش مالا ينبغى نقاشه ومن لاينبغى مناقشته؟!.... كلا وألف كلا... ولو كان الأمر لنزل الوحى يعنفه، أو للامه النبى صلى الله عليه وسلم، أو لأنبه المسلمون، ولكن شيئاً من ذلك لم يكن.





إنه الحدث الضخم، والوقع الثقيل الصعب الذى لا تحتمله النفوس ولا تستوعبه الأفهام، ويستعصى على كثير من العقول.





لم يقنع عمر بمحاورة النبى صلى الله عليه وسلم حتى أتى أبا بكر الصديق رضى الله عنه فألقى عليه كل ما ألقى على النبى صلى الله عليه وسلم من أسئلة؛ فيجيبه رضى الله عنه بمثل ماأجابه صلى الله عليه وسلم... حتى قال له أبو بكر فى نهاية مطافه: هو رسول الله فالزم غرزه.


لم يلبث الاتفاق أن تم حتى أتى أبو جندل بن سهيل بن عمرو مسلما يرسف فى أغلاله يود أن يظفر بحماية المسلمين إلا أن النبى صلى الله عليه وسلم رده حسبما تم الاتفاق عليه فصاح الرجل: يامعشر المسلمين جئتكم مسلما فتردونى إلى المشركين يفتوننى فى دينى؟؟!! فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: إن بيننا وبين القوم عهدا وميثاقا، وإن الله جاعل لك ولمن معك فرجا ومخرجا.



إن الداخل فى هذا الدين لا غرابة يتحمل أعباءه ويؤدى تكاليفه، ويضحى بمصلحته الشخصية فى سبيل المصلحة العامة ويضحى بروحه ليفدى وطنه.





شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كتابة بنود الصلح فأملى علياً رضى الله عنه: اكتب باسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لانعرف الرحمن ولا نعرف الرحيم، ولكن اكتب باسمك اللهم. فأبى على أن يمحوها، فمحاها صلى الله عليه وسلم، وكتب على: باسمك اللهم. ثم قال صلى الله عليه وسلم: اكتب هذا ماعاهد عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو. فقال سهيل: لو علمنا أنك رسول الله ماقاتلناك ولاأخرجناك، اكتب اسمك واسم أبيك. فأبى على أن يمحوها حتى محاها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكتب على: هذا ماعاهد عليه محمد بن عبدالله سهيل بن عمرو.



رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم شكليات ومظاهر يمكن الاستغناء عن كتابتها بينما هى محفورة فى القلب مغروسة فى الروح، وحسبها على أصولاً وعقائد وجوهراً لايتم العقد إلا به.





كتب العقد وانعقد الصلح، وأراد النبى أن يتحلل هو وأصحابه من عمرتهم فأمر أصحابه أن يقوموا فيحلقوا رؤوسهم وينحروا هديهم فما قام منهم رجل واحد.





كان الحدث أكبر من عقولهم وأوسع من مداركهم فلم يتحملوه حتى ذهلوا عن أمر النبى صلى الله عليه وسلم، فلم يستجيبوا لما هو شرع ودين.





دخل النبى صلى الله عليه وسلم على زوجه أم سلمة فعرفت فى وجهه الغضب حتى سألت عن ذلك... فقال صلى الله عليه وسلم: هلك المسلمون... أمرتهم فلم يطيعونى.... فإذا بالمرأة الحكيمة العاقلة الحصيفة تطلب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ألا يلزمهم بأمره، وأن يخرج فيصنع هو مارآه صواباً ًوما أوحاه الله إليه من غير أن يحملهم على ذلك حملاً أو يرغمهم عليه إرغاماً فتقول: اخرج فاحلق رأسك وانحر هديك ولا تكلم أحدا منهم فإنك إن فعلت ذلك فعلوا.





وكأنها رأت رضى الله عنها أن العقول إذا اختلفت وأن القناعات إذا لم تتلاق فلا ينبغى أن يلزم أحد مخالفه بقناعته، ولكن ليعمل كل فريق بما ارتأى، وأن العمل الميدانى أقدر على تغيير القناعات وإقناع الأفهام أكثر ألف مرة من مجرد التنظير والمحاورات... حتى خرج النبى صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه ونحر هديه فلما رآه المسلمون قاموا يحلق بعضهم بعضاً، يكاد أحدهم يقتل أخاه من الغيظ.





حدث أكبر من العقول!!!!!







الحدث وحى... والآمر نبى.... والمأمورون هم أتباعه الأوفياء وأصحابه الكرام المبرءون من النفاق المبشرون بسكنى أعالى الجنان، لكنه الابتلاء والدرس لهم ولمن يجيء بعدهم.





مضى الأصحاب ومعهم النبى صلى الله عليه وسلم عائدين إلى المدينة المنورة فنزلت سورة الفتح: "إنا فتحنا لك فتحا مبينا". هنا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو بعض أصحابه ليتلوها عليه فما اختار إلا عمر, يقول عمر فدعانى النبى صلى الله عليه وسلم فقال : أنزلت على آنفا سورة "إنا فتحنا لك فتحا مبينا"





لقد علم النبى صلى الله عليه وسلم أن عمر لايزال متعباً مكدوداً وأن بنود الصلح والحرمان من الطواف بالبيت لازالت تكدر صفوه وتؤرق نفسه فأراد أن يذهب عنه كل ذلك أو بعضه، ولكن عمر لايزال مذهولاً فالحدث أكبر من كل عقل وأعظم من أن يدرك حكمته مخلوق، وأنى للبشر أن يدركوا حكمة الوحى، فقال عمر رضى الله عنه مستنكراً: أوفتح هو يارسول الله؟!.... فقال صلى الله عليه وسلم: إى والذى بعثنى بالحق إنه لفتح.





ومضى الجميع إلى المدينة.





حتى إذا مر الزمان وتدفقت الأيام ببركات االصلح ولمعت حكمه وأسراره عاد عمر إلى صوابه فنطق بالحكمة قائلاً: اتَّهموا الرَّأيَ على الدِّين, فلقد رَأَيْتُنِي أردُّ أمرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم برأيي, وما ألومُ عن الحقِّ، وفي رواية: : مَا زِلْتُ أَتَصَدَّقُ وَأَصُومُ وَأُصَلِّي وَأُعْتِقُ، مِنْ الَّذِي صَنَعْتُ يَوْمَئِذٍ مَخَافَةَ كَلَامِي الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ، حَتَّى رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا.



لم تكن محاورة عمر مع النبى صلى الله عليه وسلم ولا مع أبى بكر رضى الله عنه كافية لإقناعه، كما لم يكن الوحى القرآنى كافياً لإرضائه، لكن مرور الزمان وتقلب الأحداث هو الذى أقنع عمر حتى ارتاح قلبه واطمانت نفسه.





إن الزمن جزء من العلاج.



وأحياناً يكون هو العلاج.





والله من وراء القصد