الأحد، أغسطس 31، 2008

كتب عليكم الصيام......(3) خبيئة رمضان النية قربى

روح رمضان.......(الخبيئة)
.
منذ أربعين عاماً مضت لم نكن نعرف إلا المذياع "الراديو"... وكان الناس يجتمعون فى التاسع والعشرين من شعبان، ملتفين حول المذياع يترقبون الخبر برؤية هلال رمضان؛ والفرحة تعلو الوجوه، وفى العيون بريق البهجة والسرور، فإذا استفتحت دار الإفتاء بيانها بالبسملة والحمدلة والشهادتين لف الصمت جموع الملتفين حول المذياع، وحبست الأنفاس فى الصدور... وكأن على الرؤوس طيورها... حتى إذا أعلن النبأ العظيم وعلم الناس أن غداً رمضان: سمعت أصوات التهليل والتكبير، ورأيتنا يصافح بعضنا بعضاً مهنئين منشرحة صدورنا مشرقة وجوهنا.
كنت أعجب من هذه المشاهد .....وأبحث عن سر هذه السعادة........وكنت أسائل نفسى.....
ماذا فى رمضان...!؟....
فتجيبنى : الصيام...... والقيام ........وتلاوة القرآن.
ثم أسائلها: أى شىء فى ذلك أوجب...؟....
فتجيبنى: الصيام فريضة ..... أما القيام والتلاوة.....فسنن ومستحبات
ثم أعود فأسائلها: لو أن قادراً على الصيام .......صام ولكنه ما قام ولا تلى...... أيكون قد أدرك كرامة الشهر وفضيلة الطاعة...؟!
فتجيبنى : نعم...ولا حرج على فضل الله.
ثم يطيب لى أن أحادثها: أليس قد يصوم المرء لأنه لايجد الطعام والشراب، أو يحتمي بأمر الطبيب، أو اتباعا لنظام غذائى يبغى من ورائه إنقاص وزنه وإذهاب بعض شحمه ولحمه، أو قد يمتنع عن الطعام والشراب أياماً تحدياً لطاغية وإعلاناً لرأيه وتصميماً على إظهار حقه وانتزاعه...؟!...
فتحدثنى نفسى...: نعم....،ولكنه لايجد تلك اللذة، ....ولا يسعد هذه السعادة.....ولا ينشرح صدره هذا الانشراح.
وأظل أضيق عليها خناقها...وآخذها من تساؤل إلى سؤال... وأثبت لها أموراً وأنفى عنها أموراً......ثم لاأصل إلى جواب شاف.
حتى إذا كان يوم من أيام الله، وساعة من ساعات الجلاء، ولحظة من لحظات القرب ... إذا بها تقتحم خلوتي وتدخل إلى مجلسي.....:
.
إن السعادة التي تجدها فى رمضان وانشراح الصدر الذى يسبق قدومه ليس إلا تجلياً من الله على عباده وقرباً منه إليهم..... أليس ترقب الهلال وانتظار رمضان والفرح بالصيام... أليس هذا كله تعظيماً لشعائر الله وفرحاً بطاعته ورغبة فى التقرب إليه....؟!....أليس تبييت نية الصيام والعزم عليه وانتواء القيام وضبط الساعة على موعد السحور وإعداد المصلى..... كل ذلك قبل التلبس بالصيام، وقبل الدخول فى زمان رمضان .!!!
أليست هذه كلها فربات... تقرب العبد بها إلى مولاه ...؟!
أليس إذا تقرب العبد إلى الله شبرا تقرب الله منه ذراعاً... وإذا تقرب العبد ذراعاً تقرب الله منه باعاً وإن العبد إذا أتى مولاه ماشياً هرول الله إليه....

لقد تقربت إلى الله شبراً بفرحك بطاعته وتلهفك على رمضان وانتظارك للصيام... فتقرب الله منك ذراعاً.
لقد بسطت إلى الله يدك..... فبسط الله إليك يديه.
لقد خطوت إلى الله خطوة ... فهرول الله إليك
لقد أقبلت على الله بقلبك... فأقبل الله عليك بقلوب العباد.
إنها روح العبادة... وليس ذاتها.
إنها روح رمضان.
وللحديث بقية؛

الأربعاء، أغسطس 27، 2008

كتب عليكم الصيام.....(2) من الواقع إلى المثال

كتب عليكم الصيام ....(2)


من الواقع........إلى المثال


لم يكن من عادة العرب قبل الإسلام ان يتناولوا أكثر من وجبتين فى يوم، الأولى: وجبة الغداء ووقتها من بعد الفجرإلى الضحى ، والثانية: وجبة العشاء ؛ وكانت قبيل الغروب أو بعده ، وكانوا يعتبرون آكل الثالثة نهِِِِما ً أو شرِها ً أو بطِنا ً.



ولما كانت شهوة البطن هي رائدة كل الشهوات ومحركها، ولما كان المسلم يراد له أن يكون هو محرك الكون ومحور ارتكازه، وأن تكون قيادة الدنيا بيديه وحركتها بفكره وعقله؛ أراد الله للمسلم أن يكون قائدا ً لشهوته وحاكما ً عليها.



إن شهوة البطن هي التي تحرك شهوة الفرج وشهوة الرياسة وحب الدنيا وشهوة الاستعلاء والتسلط ثم شهوات الظلم والبطش، وأنّى لجائع أن يحلم بامرأة، أو كيف له أن يستعلي على الناس أو يترفع عليهم بينما هو ممسك ببطنه يهدهد ألم الجوع فيها، أو هل من الممكن أن يطلب الرياسة ويسعى إليها بينما فرغ من الطعام بطنه وقد جف ريقه عطشاً وتشقق حلقه ظمأً، أم هل يتوقع منه أن يظلم أو يبطش بينما هو في حاجة إلى من يطعمه ويسقيه ؟!



أليس قد دعا النبي صلى الله عليه وسلم الشباب غير القادرين على الزواج إلى الصيام لما فيه من قدرة على كسر هذه الشهوة وإطفاء نارها وإراحة صاحبها منها...، ومن ثم إراحة المجتمع من شروره وسلامته من فجوره، قال صلى الله عليه وسلم: "يامعشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"( رواه مسلم)



أولسنا قد درسنا في كتب الطب وأبحاث علوم وظائف الأعضاء أن المرء إذا امتلأت معدته وأمعاؤه تدفق إليهما الدم وحظيتا باهتمام المخ والأعصاب للقيام بمهام الهضم والامتصاص والتمثيل الغذائي، وفي نفس الوقت ينسحب الدم من الجهاز العصبي فتقل القدرة على التركيز، وينسحب أيضا من الجهاز العضلي العظمي فتقل قدرة المرء على التحمل والأداء، وأحسب أن الحكمة القديمة: "إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة ، وخرست الحكمة ، وقعدت الأعضاء عن العمل" ... أحسب أن قائلها مادرس طبا ً ولا تشريحا ً ، وما سمع كلمة عن علم وظائف الأعضاء، وإنما هي تجربة الإنسان وملاحظته وفطرته السليمة التي تهديه فيهتدي بها، وهي أصدق وأعم من كل بحث وأسبق من كل علم قال تعالى : "...... فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون" (سورة الروم ، الآية: 30)



ليس الصيام حرمانا ً ولا تجويعا ً..... هما الوجبتان، لكن الأولى صارت قبل الفجر.....فضلا وإحسانا، والثانية بعد الغروب......وجوبا وإلزاما ً.


إنها طريقة ربانية لتهذيب النفس البشرية والارتفاع بها فوق "الواقع"، وجعلها ترنو دائما إلى "المثال"، وإن كانت تدرك بفطرتها أن بلوغ "المثال " محال،


لكن شرف المحاولة ليس بأدنى من شرف الوصول .



إنها طريقة ربانية لتقف مع نفسك إذا دعتك إلى الطعام؛ فتقول لها: لا... ليس الآن، ولتقفي مع زوجك مرة إذا دعاك إلى نفسه فتقولين له: لا ... ليس الآن،


لتقوى إرادتنا ولتصبح لديناالقدرة على اتخاذ القرار، وأن تقول لنفسك ولغيرك لا؛ قد نحتاج إلى أن نقول: "نعم وسمعا وطاعة".... مرة، لكننا نحتاج إلى أن نقول: "لا وكلا".... مرات ومرات. إن "نعم" تقيم الحضارات وتبنى الامم، وإن "لا" تمنعها السقوط والانهيار، بقول عمر رضى الله عنه: "يعجبنى فى الرجل إذا سيم خطة خسف أن يقول بملء فيه: "لا".




إن الألفاظ جعلت من أجل مدلولاتها فلا قيمة لكلمة لا مدلول لها ولا معنى.




كم من أناسٍ ولدوا وملعقة الذهب في أفواههم، لم يعرفوا الجوع، ولم يتذوقوا طعم الحرمان، ترى ماذا يكون شعور أحدهم عندما يقال له: إن فلان جائع أو إن فلانة جوعانة..... هل تراه يتحرك ؟! هل تتوقع أن يتألم ؟! هل من الممكن أن ينفعل ليصنع شيئا ً تجاه من أخبر عنه ؟!


لعل الله أراد من الصيام أن يتذوق أمثال هؤلاء حرارة الجوع الملهبة ومرارة الظمأ المفحمة، وهم بالطبع مسئولون عن شعوبهم وأممهم..... لعلهم إذا رأوا جوعى أو علموا بظمأى تسارعوا إليهم وتفانوا في إشباعهم وريهم إذ شعروا بهم وتألموا من أجلهم .



وللحديث بقية ؛

الأحد، أغسطس 24، 2008

كتب عليكم الصيام.......(1) مراحل التشريع

مراحل التشريع
المرحلة الأولى :

كان العرب أمة أمية سماهم القرآن: ".. الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ .. " (سورة البقرة ، الآية 113والآية 118) وكانت اليهود مرجعيتهم باعتبارهم أهل الكتاب الأول، سماهم القرآن: " .. الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ .. " (سورة البقرة ، الآية 107).
أساءت قريش يوماً في الحرم فأرسلت إلى اليهود تستفتيهم، فدلوهم على صوم عاشوراء.

نشأ النبي صلى الله عليه وسلم في قريش يشاركهم في محاسنهم ومكارم عوائدهم، ويفارق مساوئهم وشذوذاتهم، فصام عاشوراء بصيام قريش.

المرحلة الثانية :

هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة والمسلمون بعد ثلاثة عشر عاماً من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، "فوجدوا اليهود تصوم عاشوراء فسألوهم عن ذلك فقالوا: هذا يوم عظيم، هذا يوم نجى الله فيه موسى، فقال صلى الله عليه وسلم: نحن أولى بموسى منهم، ثم صامه و أمر المسلمين بصيامه" ( أخرجه البخاري) فصاموه أنصاراً و مهاجرين .

المرحلة الثالثة :

صام النبى صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام من كل شهر، وأوصى بعض أصحابه بصيامها.

المرحلة الرابعة :

فرض الله عليهم صيام شهر رمضان، وكانوا في مبدأ أمرهم مخيرين بين الصيام والإطعام: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، وإن حبب إليهم الصيام فقال "وأن تصوموا خير لكم"، مع الترخيص للمريض والمسافر بتأخير الصيام إلى ما بعد رمضان- إن هم اختاروا الصيام-.
فى نفس الوقت كانوا يأكلون ويشربون ويباشرون النساء مالم يصلوا العشاء أويناموا وكانوا فى ذلك كله متأثرين بطريقة أهل الكتاب فى صيامهم فإذا صلوا العشاء أو ناموا لم يقربوا الطعام والشراب والنساء حتى غروب شمس اليوم التالى،.فكانت فترة صيامهم تقارب اثنتين وعشرين ساعة.

فأما أصحاب الهمم العالية وأهل العزائم فقد اختاروا الصيام، وقدموا النموذج فكانوا روادا ًحتى إن قيس بن صرمة وكان رجلاً من الأنصار عاد يوما ًمن بستانه وكان صائماً، فانطلقت امرأته لتعد له طعامه فلما أن عادت وجدته قد غلبه النوم، فوقفت عند رأسه وقالت: يالخيبتك، أنمت؟!......... (نعم فقد فاته حظه من الطعام والشراب ، أو فاتها حظها منه، كلاهما ليوم آخر)........فلما كان من الغد انطلق إلى عمله، فلما انتصف النهار أغشى عليه... فذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم (رواه البخارى)

وكان من عمر بن الخطاب موقف مغاير؛ فقد عاد بعد العشاء، وبعد سمره مع النبى صلى الله عليه وسلم ، فأراد امرأته لحاجة نفسه فقالت: إني قد نمت، قال: بل أنت تتناومين، ثم غلبها على نفسها، فأصبح فٌأخبر النبى صلى الله عليه وسلم بذلك .

وبإزاء هاتين الحادثتين- وغيرهما من الحوادث المماثلة- نزل القرآن على النبى صلى الله عليه وسلم" أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ " (سورة البقرة ، الآية 187)
ففهموا أن الله قد أباح لهم الطعام والشراب والنساء حتى طلوع الفجر الصادق
وقال النبى صلى الله عليه وسلم مبينا لهم ذلك:" فصل مابين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر" رواه مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص"

المرحلة الخامسة :

فرض الله الصيام على كل مقيم صحيح، وبقيت رخصة الإطعام للكبير الفاني ورخصة التأخير إلى ما بعد رمضان للمسافر والمريض".......فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر....."( سورة البقرة:الآية 185)، وامتدت فترة الإذن بالأكل والشرب والجماع إلى طلوع الفجر الصادق، ويذلك اختصرت فترة الصيام إلى حوالي اثنتي عشرة ساعة شتاءً، وما يقارب ستة عشر ساعة صيفاً.
وللحديث بقية ؛

الخميس، أغسطس 14، 2008

أحبوا الموت...(5) رأيت الموت

أحبوا الموت..... (5)

منذ ربع قرن من الزمان:



رأيت الموت


دعيت لإجراء عملية ختان لابن واحد من الكبار، شقيقه عضو في مجلس الشعب، ومقرب جداً من الرئاسة، وكانوا يسمونه: "والي الإسكندرية"، وقد بسط نفوذه على ميناء الإسكندرية من شرقها إلى غربها.
حاولت إقناع والد الطفل بإجراء الختان في العيادة ولكنه أصر على أن يكون بالبيت مهما كانت الأتعاب؛ فحملت حقيبتي وتوجهت إلى بيت "الموعود"، وفي الطريق مررت بزينات وأنوار- أصوات الأعيرة النارية تكاد تصم الآذان.
أدخلت غرفة فارهة مكيفة، وبعد قليل جاء الرجل ومعه ولده – صبي في العاشرة تقريباً من عمره – وحيد والديه، ومدلل إلى أبعد الحدود، حاول ما يقرب من أربعة رجال أن يمسكوه، ولكن الولد قاومهم بعنف وسب الجميع بأقذع الألفاظ، وكلهم يضحكون وتبدو السعادة على وجوههم.
قلت: مستحيل ياجماعة ... لابد من إجراء العملية بالعيادة بعد إعطاء الولد حقنة مخدرة لأنه كبير السن، ويخشى حدوث مضاعفات.
عدت إلى عيادتى، وعادوا بعدى بحوالي عشر دقائق ....ومعهم "الموعود".
قمت بحقنه بحقنة مخدرة وأتممت العملية وحمدت الله، وبعد أن اطمأننت على مقاييس الصحة والعافية من الضغط والنبض وضربات القلب وسلامة الجرح قلت: ألف مبروك ياجماعة، عقبال الزفاف.
حملوه إلى بيته وبقيت في عيادتى أستقبل مرضاي..... وأستغفر مولاي.
بعد ساعتين...... وحوالى العاشرة مساءً اندفع باب غرفتي بشدة وسمعت صوت جلبة وضوضاء، نظرت أمامى فإذا بوالد "الموعود" وخلفه جمهرة من الرجال.
اندفع الرجل إلى غرفتي ووقف أمام مكتبي وقال مزمجرا ً في غير تحية ولا سلام:
" الولد ما قامش"
وتبعه ثان: "ولا بيتحرك
وتبعه ثالث: "ولا بيتنفس"

أسقط في يدي، ولكني أظهرت تماسكي وثقتي بنفسي.... قلت: روحوا هاتوه، فاستدار الرجل إلى من معه وقال لهم: "خليكوا قاعدين، ما حدش يمشي"، ثم أشار إلى اثنين منهم فصحبوه، وجلس الباقون محتلين جميع مقاعد الانتظار بالصالة، وبقي بعضهم واقفا ً.

أدركت أنني محاصر. .....عدت إلى مقعدى، ومكتبي بين يدي...... رفعت عيناي أنظر نحوهم فإذا كل العيون مصوبة نحوي .......... أنا أعلم من هؤلاء......؟!..... وأعلم سطوتهم ....وبطشهم..... وأن في جيب كل واحد منهم "مسدس" جاهز للضرب ......وأنه إذا أمر بإطلاق النار أطلقها.......... لايعرف القاتل فيم قتل .....ولا يعرف المقتول فيم قتل.

اتجهت بقلبي إلى ربي..... وظللت أستغفر الله في سري وأدعوه أن يكشف الغمة....... وإن كانت الأخرى فلتكن شهادة.

استرجعت ذنوبي وأخطائي.... وتصورت الموت.... والقبر.... والبعث.... والجنة... والنار..... ورأيت في سبع دقائق ما لو كتب لملأ سبع مجلدات.

دخل الثلاثة بعدها يحملون الجثة حتى ألقوها أمامي على منضدة الكشف..... وقام الجميع واقفين:
إكبارا لوالد "الموعود"...............!
أو إجلالا لتلك النفس المحمولة......!
أو استعدادا للانقضاض على.......!

كل ذلك ممكن ......استعنت بالله، وقمت لأفحص تلك الجثة وبي من الهم مالا يعلمه الا الله، ولكننى كنت قد أسلمت نفسي وفوضت أمري الى الله .....وصرت جاهزاً لأن أدفن قبل الغلام .!
ضربات القلب........مسموعة ومنتظمة
النبض.........محسوس ومنتظم
التنقس.........طبيعى ومنتظم
أمسكت بشحمة أذنه اليسرى.... وفركتها بين سبابة وإبهام يمناي.... فصرخ الغلام صرخة مكتومة وتلوى بجسده .........تنفست الصعداء...... وهمهم الناس جميعاً....

حبست دموعي وعدت إلى مقعدى في ثقة ظاهرة وقلت:

" الولد كويس . بس هو كان متعب ومرهق وانتقل من الإفاقة بعد زوال أثر المخدر إلى النوم العميق مباشرة ..."

شكرني الناس، واعتذر والد الغلام .....وغض طرفه حياءً مني.

حملوا غلامهم وانصرفوا، وجلست إلى مكتبي أرقب تتابع الأحذية والنعال وهي تغادر باب عيادتي حتى إذا اختفى آخر حذاء..... انفلت دمعي وخررت على الأرض ساجداً، وبكيت بحرارة... وبمرارة.

الحمد لله - فرصة جديدة ..وعمر جديد... وصفحة جديدة..." اللى فات مات "– سأبدأمن جديد – لعلي أعمل صالحاً ...ولكن هيهات هيهات ... أين أذهب من نفسي وهواى ... من يجيرني من شيطانى ودنياي.


سامحنى يارب.........إنما أنا إنسان......... وفى طبعى كثير من النسيان.


والله من وراء القصد.

أحبوا الموت...(4) ليس الموت نهاية الطريق

أحبوا الموت...(4)
بينما كنت أقلب بعض أوراقى القديمة:

ليس الموت نهاية الطريق
كنت أحب أبي، وكثيرا ً ما خصني ببعض الأخبار أو الأسرار أو المعلومات، وقد خصني بدعوة أخبرني بها، وأوصاني وأوصى إخوتي في حالة وفاته بأن أغسله وأكفنه وأصلي عليه، على الرغم من وجود من هم أكبر مني سناً.

كنا قريبين قرب الصديقين، حبيبين كالأخويين، وكنت دائما ً تحدثني نفسي بأن أقبل يد أبي اعترافا ً بفضله وقياما ً بحقه، ولكن نفسي لم تطاوعني ليس استكبارا ً ولاترفعا ً، ولكن ربما لأنها ليست عادتي ولم أنشأ على ذلك.

مات أبي قرابة السبعين من عمره، وكنت قد جاوزت الأربعين لتوى-ولم أنعم بتقبيل يده ولو لمرة واحدة- ويومها عرفت معنى الندم وتذوقت الحسرة والألم، ولم يدم ذلك إلاريثما حضرالأهلون والأقربون، ورأيت عمي بينهم فأسرعت إليه وصافحته وقبلت يده ولأول مرة، وبكيت بكاء ً شديدا ً ليس لموت أبي، ولكن ألما ً على ما فاتني من الخير، وفرحا ً أني وفقت إلى شيء من البر،" فإن عم الرجل صنو أبيه" (أخرجه أبو داود). ثم انطلقت إلى أمي وصافحتها وقبلت يدها -ولأول مرة في حياتي- ويومها صارت فرحتي لاتعدلها فرحة.

لقد كان يوم موت أبي يوما ً تحولت فيه تحولا؛ ً غلبت نفسي وأرغمت شيطاني وهزمت ضعفي وقهرت عادتي وطبعي ....،

ظللت أقبل يد عمي كلما زارني أو زرته، وأخبرته أني أصنع ذلك عوضا ًعما فاتني من أمر أبي، ومات عمي وواريته التراب.

ثم انطلقت بعدها إلى أبناء عمومة أبي في بلدة بعيدة كنت أسمع عنهم ولم أرهم، ولم أدخل بلدتهم في حياة أبي، وما كنت أعرف الطريق إليهم . تعرفت عليهم وتعرفوا علي؛ كنت أرمق وجوههم ولاأمل النظر إليهم وأرى في وجه كل واحد منهم وجه أبي.

ذات يوم رأيت فيما يرى النائم أني أزور أبي في بيته وكأنه في حياته، فلما رآني أقبل علي وصافحني وعانقني وقال: "لقد أتعبتك كثيرا ً ووصلتنى هداياك جميعها".

كنت أزور أمي وأقبل يدها في الدخول وعند الخروج، وكانت تزورني وتقضي معي أياما ً فأقبل يدها عند الصباح وإذا عدت من عملي وإذا خرجت وإذا دخلت وإذا أيقظتها من نومها، وكنت أجد في ذلك لذة عجيبة ومتعة غريبة وراحة لم أجدها في متع الدنيا وملذاتها.... ولا في بعض العبادات والقربات.

مرة أخرى رأيت فيما يرى النائم أني أصافح أبي، فلما صافحته انكب على يدي فقبلها، فاستحييت من ذلك حياء ً شديدا ً وخررت على قدميه أقبلهما مرات عديدة، فلما وقفت مرة أخرى أخذ بيدي وقبلها ثانية

قمت من نومي فحمدت الله وسجدت على الأرض؛ لعلي قد وفقت، وأدركت شيئا ً مما فاتني، ولعل الله جبر بعض كسري.


اللهم اغفر ذنبي ...واستر عيبي... وطهر قلبي... وحصن فرجي.


.. ودبر أمري... وأحسن عاقبتي ...وخلصني مما لا يرضيك عني.



كم في الموت من آيات ،وكم في ذكره من عبر وخيرات




والله من وراء القصد

أحبوا الموت...(3) أحيل إلى المعاش فأبى ان يركن إلمعاش

أحبوا الموت.....(3)


أحيل إلى المعاش فأبى أن يركن إلى "المعاش"، فعمل بائعاً للصحف والكتب والمجلات.
يطوف على المحال التجارية والمقاهى يعرض ما يعرض من مؤلفات ومطبوعات ، يكسب جنيهات قليلة لا تزيد على البضع .

سألته يوماً : لماذا اخترت هذا العمل ؟؟!!
قال : الفراغ مفسدة، ومكث الرجل فى بيته يثقل على أهله، وقد يؤدى إلى نشوء المشاكل والخلافات، ثم إننى أنشر الثقافة الإسلامية، وأغذى الناس روحياً وفكرياً، وأكسب بضع جنيهات. نعم هى قليلة، ولكنها حلال، والبركة خير من الكثرة.
ظل هكذا حتى انحنى ظهره، وضعف بصره، ونحل جسده نحولا ًشديدًا، وكنت أعجب لهذه العزيمة وتلك الإرادة.
كان يزورنى فى عيادتى قبل الظهر فأبتاع منه كتابا أو مجلة ثم نتناول الشاى، فإذا سمع أذان الظهر قال: هيا نصلى، فأساله: هل ترغب فى الوضوء؟؟ فيقول: إننى على وضوء منذ خرجت من بيتى. وهكذا فى كل مرة، لم يحدث يوماً أن تخلفت عنه هذه العادة، وكنت أدهش لذلك، فسألته: أنت دائما على وضوء!!! فابتسم وقال: نعم ،كلما انتقض وضوئى توضأت.
لم يكن يتكلم إلا فى المفيد النافع، وكان دائماً يتحدث عن الشهادة وعن شهداء الدعوة، ولكنى كنت أشعر أنه ليس مجرد حديث عن شيء سمعه أو قرأه أو أحبه، وإنما هو يتحدث عن تجربة خاضها أو حقيقة عاشها، وكنت أعجب من رغبته فى أن يموت شهيداً!!! وكيف تبلغه الشهادة أو يبلغها وهو يبيع الجرائد والمجلات فى شوارع العجمى وميادين الإسكندرية، وقد جاوز الثامنة والسبيعين.



ذات يوم دخلت عيادتى فرأيت الدموع فى عيني موظفة الاستقبال، ولما سألت عن السبب أخبرتنى أنه منذ قليل كان بالشارع حادث مروع وأن سيارة صدمت رجلاً، وكان الدم ينزف من رأسه وجسده بغزارة،وأنه حمل فى سيارة الإسعاف بين الحياة والموت.


بعد قليل اتصل بى أحد إخوانى وقال لى: "عم محمد البركة فيك ..والجنازة ظهر اليوم من مسجد العمرى"
قلت: كيف ومتى؟؟؟ قال: كان يعبر الشارع أمام عيادتك فصدمته سيارة. فأدركت أنه هو.

سبحان الله... كان على وضوء... وخرج يسعى مجاهداً فنال الشهادة التى كان يتمناها.
ذهبنا إلى المقابر وأنزلوا الجثمان من سيارة نقل الموتى، وأودعناه فى أول مقبرة على يمين الداخل، لم نحمله أكثر من ثلاثين متراً، ولم نشعر أننا سرنا فى جنازة، وفى لمح البصر أهيل عليه التراب..... وتقبل أهله العزاء.
ونحن فى الطريق خارج المقابر مال على أذنى أحد أخوانى وقال: عاش خفيفاً ومات خفيفاً.

لم يتكلف لأحد ولم يتكلف له أحد فى حياته ، ولم يكلف أحداً ولم يتكلف له أحد عندما قضى نحبه .
أبى أن يكون ثقيلا ًعلى أحد فى حياته فأراد الله ألا يكون ثقيلاً على أحد عند موته ودفنه .
كم من الدروس والعبر فى حياته وموته .


كم من الأخفياء الأتقياء إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يفتقدوا ..


الاثنين، أغسطس 11، 2008

أحبوا الموت ........(2)الموت يصنع الحياة

أحبوا الموت..... (2)




ليس المطلوب حب الموت لذاته، وإنما لأنه الطريق إلى الله، ولا يمكن لقاؤه إلا بالموت.
"من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه" (رواه البخاري)
"....إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين"( سورة الجمعة :آية 6)
إن حب الموت وطلبه دليل على صدق الولاية.
"قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين" (سورة البقرة-آية:94)
إن الثقة بما عند الله واليقين بموعوده تدعو لحب الموت، وإن مشاهدة الحقائق التي تعقب الموت هي التي تسوق نفوس المؤمنين إليه، فيلتذون بخوض غماره.
إنها الحقيقة التي رآها أنس بن النضر يوم أحد عندما لقي سعداً بن معاذ فقال "واهاً لريح الجنة إني لأجد ريحها دون أحد" ثم انطلق فقاتل حتى قتل.
إنها الحقيقة التي رآها آل ياسر فثبتوا حتى قتل ياسر وقتلت زوجه سمية "صبراً آل ياسر، إن موعدكم الحنة"
إنها الحقيقة التي أدركها عوف بن الحارث يوم بدر عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: " مايضحك الرب من العبد؟" فأجابه صلى الله عليه وسلم: "غمسه يده في العدو حاسراً" ، فألقى درعه وقاتل حتى قتل. (رواه ابن إسحق)
إنها الحقائق التي شاهدها سيد قطب وعبدالقادر عودة ومحمد فرغلى ويوسف طلعت وهواش وغيرهم من الشهداء.



حب الموت قوة


إذا كان الوهن هو "حب الدنيا وكراهية الموت" فإن القوة هي حب الموت وكراهية الدنيا!!!!
ألم يكن من أوصاف الفاتحين السابقين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم يحرصون على الموت أكثر من حرص أعدائهم على الحياة.
يقول صلى الله عليه وسلم: "إن من خير معايش المسلمين لهم ؛رجل له فرس يطير عليه، كلما سمع هيعة أوفزعة طار عليه يبتغى الموت والقتل مظانه.........."(رواه مسلم) أي أنه يطلب الموت في الأماكن والمواطن التي يغلب على ظنه أن الموت فيها.
إن أمثال هؤلاء هم الذين يرسمون مستقبل أمتهم ويدعونها ترفل في ثياب العزة والكرامة .
وقديماً قالوا: احرص على الموت توهب لك الحياة، و قالوا: كم من حياة كريمة عزيزة كان سببها طلب الموت، وكم من حياة مهينة ذليلة كانت علتها اللهث وراء الحياة.

إن قوة المسلم الحقيقية تأتيه من حب الموت إذ هو علامة على صدق الولاية.
إن المسلم المجاهد الذي يحب الموت هو رجل من الآخرة، وليس من هذه الحياة التي يعيشها الناس، لذا تقف الدنيا كلها له إجلالا .


الموت...... هازم اللذات


ليس باعتباره نكداً وتنغيصاً يفسد لذائذ الحياة ويمحو عينها وأثرها، ولكن باعتباره أقواها وأعلاها وأعظمها وأحبها إلى قلوب المؤمنين إذ ينقلهم إلى آفاق الكون ورحائب السماء وإلى الجنات والحور والمسك والتيجان، ثم إلى زيادة تتضاءل عندها كل سوالف النعم "فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم"
ألم يقل صلى الله غليه وسلم لفاطمة وهو يحتضر:"لاكرب على أبيك بعد اليوم"،وقال: "عبد خيره الله بين الدنيا وبين ماعند الله فاختار ماعند الله"، فعلم أبوبكر أنه الموت


نحن أمة صنعها الموت
فصنعت أعظم حياة


ألم يكن الموت جاثماً على صدرها يوم أن ذهب إبراهيم بإسماعيل إلى المنحر وتله للجبين وأجرى على عنقه السكين، وهاجر- أم المؤمنين- الأم تعلم ذلك يوم أن أراد إبليس أن يحرك قلبها ويلعب بعواطفها ومشاعرها لتكون حائلاً دون ذلك فيقول: لقد ذهب إبراهيم يذبح ولدك يزعم أنه ربه أمره بذلك: فإذا بها تلقمه حجراً وتجيبه بإيمان ويقين:إن كان ربه أمره بذلك فحسن أن يطيع ربه؛ وتكتب الحياة لإسماعيل ويعود إلى أحضان أمه وإلى سعيه مع أبيه، وفداه الله بذبح عظيم ليأتي بعد ذلك من صلبه عبدالله بن عبدالمطلب ....

ألم يكن الموت جاثماً على صدرها يوم أخذ عبدالمطلب ولده عبدالله ليذبحه وفاء بنذره، والناس حوله يلومونه ويلحون عليه بالرجوع، وهو مصر على الوفاء ومصمم على الأداء، حتى هدي إلى أن يقرع بين ابنه وبين مائة ناقة، فخرجت القرعة على المائة، ففداه بها، وعاد عبد الله وكتبت له الحياة ليأتي بعد ذلك من صلبه محمد صلى الله عليه وسلم وليعلن هذه الحقيقة التي غفل الناس عنها " أنا ابن الذبيحين "



نحن أمة ولدت من رحم الموت ...مرتين


نحن أمة صنعها الموت فصنعت أعظم حياة



لأننا نعلم أن الموت قدر الله لا دخل للناس فيه، ولا قدرة لهم على دفعه أو منعه، كما أنهم لا قدرة لهم على جلبه وإحضاره؛ كما أننا نعلم أن الحياة هبة ومنة من الله لا حيلة للبشر في منعها أو منحها .

ونعلم أن أسباب الحياة وأسباب الموت من رزق ومرض وشفاء وسقم ودواء وصحة وداء كلها بيد الله، لذا نتوجه إليه صباح مساء بالخضوع والدعاء والدموع والبكاء أن يجعل الحياة زيادة لنا في كل خير وأن يجعل الموت راحة لنا من كل شر، ومن أجل ذلك نهتف :


الله غايتنا


نحن أمة صنعها الموت فصنعت أعظم حياة لأننا نعلم أن نبينا صلى الله عليه وسلم كتب عليه الذبح مرتين، مرة وهو في صلب إسماعيل، ومرة وهو في صلب عبدالله، ثم كتب الله له الحياة، ونعلم أنه كان على مقربة من الموت يوم أن خنقه عقبة بن أبي معيط بردائه، ويوم أن كان في الغار ومعه أبو بكر رضي الله عنه، ويوم بدر، ويوم أحد، ويوم الخندق، ويوم بني النضير، ويوم بني قريظة، لكن الله كتب له الحياة لنحيا بعده ببركته صلى الله عليه وسلم، ولنعيش أعظم حياة في ظل القرآن وظل سنته وهديه لذا نهتف من أعماق قلوبنا :


الرسول قدوتنا


ونعلم أن القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم يأخذ بـأيدينا إلى أكرم حياة وأهنأ معيشة يخبرنا أن حياة الشهداء عند ربهم لا تعدلها حياة وأن ميتة الدنيا هي لحظة انتقال من حياة إلى حياة .
"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون"( سورة آل عمران،آية:169)
لذا نهتف دائما ً:


القرآن دستورنا


ونعلم أن الجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الإسلام لأنه تعبير عن رغبة المسلم في بذل روحه لله واعتراف من العبد لربه بأنه خادم لمولاه وأنه وديعة توشك أن ترد إلى صاحبها وخالقها وبارئها .


الجهاد سبيلنا


ونعلم أن الموت يصنع الحياة، وأن الحياة الكريمة العزيزة تعانق الذين يحبون الموت ويبحثون عنه، وأن الموت الذليل المهين يتربص بالذين يلهثون وراء الحياة .


الموت في سبيل الله أسمى أمانينا


ألم أقل لكم:




أحبوا الموت





والله من وراء القصد

الخميس، أغسطس 07، 2008

أحبوا الموت ....(1)الموت بداية

أحبوا الموت .... (1)


إهداء إلى أخي" أبو نظارة" في يوم وفاة والده ....( رحم الله والدي ووالدك )

الموت قدر الله، لا تستقدمه شيخوخة، ولا بعجله سقم، ولا تؤخره طفولة أو صبا، ولا تدفعه عافية.
والحياة هبة من الله ونعمة، لا تحفظها الأسباب، ولا يبقيها الفرار من الموت ..
قال الله تعالى : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم .... "

( سورة البقرة - الآية :243)

فروا من الموت .. فأماتهم الله .. ليعلمهم أن الموت قدره وقضاؤه ، ثم أحياهم .. ليعلمهم أن الحياة هبة من الله ومنة منه وفضل ..


..


أحبوا الموت
فالموت بداية ... وليس هو النهاية


أما إنه بداية للأموات:

فالصالحون يبدءون حياة جديدة في جنة عرضها السموات والأرض .. قال الله تعالى : " ولا تحسبن اللذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ً بل أحياء عند ربهم يرزقون ...." (سورة آل عمران – الآية: 169)


وأما غيرهم فيبدءون في سعير وجحيم ولظى وزقوم ..
قال الله تعالى : " النار يعرضون عليها غدوا ً وعشيا ً...." (سورة غافر- الآية: 46)

دفن النبي صلى الله عليه وسلم جنازة وأمر الناس ألا ينصرفوا حتى يستغفروا لأخيهم ويسألوا الله له التثبيت .."فإنه الآن يسأل" رواه أبو داود والحاكم .
وقال : "إنه يسمع قرع نعالهم" رواه الشيخان .
ولما حضرت عمراً بن العاص الوفاة كان مما أوصى به :"فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور و يقسم لحمها , حتى أستأنس بكم , و أنظر ماذا أراجع به رسل ربي" .

ومر النبي صلى الله عليه وسلم على قتلى المشركين في بدر بعدما ألقوا في القليب ومرت عليهم ثلاثة أيام بلياليها فناداهم بأسمائهم وأسماء آبائهم.. "هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ً ، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا ً"
فتعجب عمر وقال : أتخاطب قوما ً قد جيفوا ؟؟
فقال صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا" رواه مسلم

ومفهوم مما سبق أن الموتى يسمعون ويعرفون من يخاطبهم ولكن الذي تعطل عندهم هو جهاز الإرسال "لا يستطيعون أن يجيبوا" أما جهاز الاستقبال فهو يعمل بكل كفاءة ولقد كنت أعجب من هذا زمنا ً طويلا ً حتى مررت بهذه التجربة :

"شريف الحمراني" من بلاد السودان . رجل دمث الأخلاق رقيق الطباع خفيض الصوت حيي الطرف . دخل المستشفى يوما ً لإزالة حصوات بإحدى كليتيه ، ذهبت لأعوده فوجدته قد خرج لتوه من غرفة العمليات وأدخل إلى العناية المركزة ، استأذنت أهله في زيارته فقالوا : لم يفق بعد ، قلت : أراه بعيني .. فأذنوا لي .
وقفت إلى جواره وهو جثة هامدة لا تطرف له عين ، وضعت يدي على جبهته ودعوت له "اللهم رب الناس أذهب البأس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما" ...ثم انصرفت بعد ما سلمت على مرافقيه .

بعد يومين .. ذهبت إلى المستشفى لأعود "شريف" ، استقبلني بفرح شديد وترحاب وأغاريد وقال بالحرف الواحد : "جزاك الله خيرا ً ، زرتني بعد خروجي من العمليات مباشرة وسمعت صوتك وعرفت أنك أنت الدكتور توكل وسمعت دعاءك كله وكنت أحاول أن أفتح عيني لأراك فما استطعت"


سبحان الله .. جهاز الاستقبال يعمل
ولكن .. جهاز الإرسال قد توقف تماما ً


أليست هذه حالة قريبة من حالة الموتى ؟!

" ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا "


وأما إنه بداية للأحياء :

شيع الحسن البصري جنازة فلما قفل راجعا ً نظر إلى أصحابه وقال لهم : ماذا كان يود أحدكم لو كان هو صاحب الجنازة ؟
قالوا جميعا : كنا نود أن نرجع فنعمل صالحا ً .
فقال : ها أنتم راجعون.
قال صلى الله عليه وسلم : "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم ينتفع به ، وولد صالح يدعو له"

هيا أيها الولد الصالح ... ابدأ من الآن.. من بعد موت أبيك .. ابدأ حياة جديدة بالدعاء لوالدك الذي ربما لم تدع له في حياته... ابدأ الآن .
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأله سائل فقال: يا رسول الله! (هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال عليه الصلاة والسلام: الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما).
هيا أيها الولد الصالح..... ابدأ الآن بعد وفاة أبيك: صل عليهما، استغفر لهما ، أنفذ عهدهما، أكرم صديقهما، صل أرحامهما.

جاءني شاب ..
قال : مات أبي ..
ثم أردف : كثيرا ً ما دعاني في حياته إلى الصلاة ولكني كنت مدللا ً فعصيته ، ولم يظهر غضبه علي ولا قاطعني ، ولا فارقته ... إنما كان يدعوني ويلح علي وأنا أتعاظم عليه وأستكبر دلا ً فقد كنت وحيده .. حتى كان يقول لي : أريد أن أراك يوما ً وأنت تصلي فتقر بك عيني ، ثم يقول مرة أخرى : ألا تدخل علي السرور بصلاتك يوما ، لكنه ظل لطيفا ً معي ورفيقا ً بي إلى أن مات.

وكان أول يوم أدخل فيه المسجد وأول مرة أتوضأ فيها وأصلي يوم صليت عليه ، ولم أنقطع يوماً عن المسجد وما تركت صلاة الجماعة بعدها .
وكلما صليت ندمت وبكيت .... كيف ضيعت الفرصة ولم أدخل السرور على أبي حتى مات !!


مات وما قرت عينه بابن يصلي


قلت : لعل الله يغفر لك ما فات .. وقد بدأت والحمد لله .. نسأل الله لك الثبات .
قال : ولكني أتيت لأسألك عن شيء .
قلت : وما هو ؟؟
قال : هل من الممكن أن يشعر أبي الآن بعد موته أنني صليت ، وهل يبلغه ذلك فتقر عينه ، وهل سيسعد بي وهو في قبره ؟؟!!
قلت : أدعو الله أن يبلغ أباك ذلك وأن يجعل صلواتك واستقامتك في ميزان حسناته" فالدال على الخير كفاعله" رواه مسلم .
"ومن دعا إلى هدى كان له مثل أجور فاعليه" رواه مسلم .


********************


كان لأبي وجدي أرحام ُ ُ من أبناء عمومتهم ، لم يكونوا يتواصلون لخلافات قديمة ونزاعات موروثة ، وبعد موت جدي ومن بعده أبي كنت أصلهم وأهب ثواب صلتهم لهما ، فرأيت يوما ً فيما يرى النائم أني أزورهما ، وأنهما فرحا بقدومي وقال لي أبي بالحرف الواحد : لقد أتعبناك كثيرا ً ووصلتنا هداياك جميعها ً .
فأدركت بعدها أن الأموات يشعرون بالأحياء وتبلغهم أعمالهم ، وأن الأرواح تتواصل ، وتمنيت لو لقيت هذا الشاب فأخبره بذلك ، أو لعله يلقاني فيخبرني بأنه لقي أباه وسعد به بعدما بلغه أن ابنه قد صلى .... وكثرت إلى المساجد خطاه .
لو نطق هذا الوالد لقال: ليتنى مت منذ زمن بعيد، لقد بدأ ولدى بموتى حياة جديدة.....







لذا أقول لكم:أحبوا الموت......


وللحديث بقية...