السبت، سبتمبر 19، 2009

إن عادوا ..... فعد (15) تواصل الأجيال

تواصل الأجيال

.

.


بعد شهر كامل من الاعتقال زارنا أهلونا في سجن طرة وكانت زيارة مباركة أسعدتنا زوْراً ومزورين .
.
نقلت زوجتي إلىّ تحيات ودعوات أهلى وإخواني وجيراني ... وسألتها : هل من رسالة من أبي ؟!
قالت: نعم ... ولكنها شفهية ... هو يقول لك : "من المؤمنين رجال ....."
قلت:
هلا أكمل الآية ؟!
قالت:
سألته ذلك .. فقال أنت أدرى بها .... أنت تكملها ....
فقلت :
نعم ... "من المؤمنين رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً " سورة الأحزاب
.
.
جلسنا ساعتين نجتر الذكريات ونسأل عن القاصي والداني حتى قفزت صورة تفتيش بيتي إلى مخيلتي ....
سألت زوجتى :
كان الضابط قد عثر على ورقة اهتم بها كثيراً ولكنه نسيها إلى جوار حقيبة إحدى البنات ..
قالت :
نعم ... وأنا كنت أرقبه .. فأسرعت إلي الموقد فأحرقتها ..
قلت :
متى؟؟
قالت:
قبل أن تغادروا الشقة ... والله لو ذكرها عند الباب فعاد إليها لما وجدها .
قلت :
ماكان فيها ؟!!
قالت : والله ما أدري ولا نظرت فيها ... وهل كان الوقت وقت قراءة واطلاع !!!
.
ودعنا أهلنا وحملنا أمتعتنا إلى الزنازين بعدما قام رجال المباحث بالسجن بتفتيشنا وتفتيش كل ما وصلت إليه عيونهم وأصابعهم ... وبينما كنت أرتب ثيابي التي حملوها إلي في الزيارة إذا بقصاصة ورق صغيرة تسقط من بين الملابس ... فقرأتها :
.
.
أبي الحبيب:

السلام عليكم ورحمة الله
وبعد،

فقد وحشتنى كثيراً ... وكلما فتحت درج الكمودينو ونظرت إلى صورتك يكاد يغلبني البكاء ... ولكني أتشجع وأقول لنفسي : إن أبي يجاهد في سبيل الله والحق وسوف ينصرنا الله في يوم من الأيام
.

ابنتك إسراء
.
.

لا أدري كم مرة قرأت هذه الرسالة ربما عشرات المرات ... حتى إنني من فرط تعلقي بها عددت كلماتها فوجدت " أربعين كلمة " ولكنها توفر عليك قراءة أربعين كتاباً فقد استوعبت كثيراً من القضايا والمفاهيم التى لم يستوعبها بعد كثير ممن تجاوزوا الأربعين بينما كانت إسراء في ذلك الوقت قد أتمت العاشرة لتوها فقد كان مولدها يوم 12 فبراير 1988 وكان اعتقالنا في التاسع من فبراير 1998 .
.
حمدت الله على التوفيق وأعددت رداً موجزاً على رسالة إسراء .... كتبته وأودعته أوراقي في زنزانتى ... ولم أحفظ كلماته ...

الحمد لله تواصلت أجيالنا ... هاهو صوت أبي يبلغني في رسالة مع زوجتي يدعوني إلى الثبات والمصابرة ... وهاهو صوت ابنتي يبلغني في زنزانتي ...وإنه في الحقيقة لصدى صوتي .... ومرآة حقيقتي ...
.
إن ديناً يحمله الناس بهذا الإصرار .... لا يكون إلا الذي يرضاه رب العالمين ... وإن أناساً يحملون الدين بهذه العزيمة لجديرون أن ينصرهم الله ....

.
.
"في يوم من الأيام " ............ على حد تعبير إسراء
.

.

ذات يوم فتشوا حقائبنا وأوراقنا فعثروا على الرسالتين : رسالة إسراء .. ورسالتي التي ترد عليها ... وكنت أود أن تبلغها .. فحزنت في البداية ثم رجعت إلى نفسي .. وقلت سبحان الله ... لكأن الله أراد لهم أن يقرأوا رسالة بنت العاشرة وأن يقرأوا جواب أبيها عليها .
.
.
لعل أحدهم يقرأهما فيتغير حاله ويهتدى ويرق قلبه وتهذب نفسه لما فيهما من حب وشوق وعاطفة بين بنت وأبيها ... فإن لم تكن هذه فلتكن الأخرى ... ولعل ما فيهما من العزيمة والإصرار وتواصل الأجيال والتعاهد على الاستمرار ... لعل ذلك كله يفت في عضده فتنهزم نفسه ... ثم من بعد ذلك تنهزم إن شاء الله دولته ..
.
.
بعد حوالي ثلاثة أشهر أفرج عنا وعدنا إلى أهلينا ودعوتنا سالمين غانمين ولعلنا أن نكون إن شاء الله "مأجورين غير مأزورين " ...
..
لقيت أبي فعانقني وعانقته وبكى فرحاً لرؤيتي وطرباً بعودتي ودعا لي بالسلامة والعافية ... ثم قال: ... أريدك أن تقص على كل ماحدث معك ومع اخوانك منذ أخذوك من المسجد وحتى عدت إليّ الآن ... ولا تبخل عليّ فإني أسر بسماع أخبار الرجال وأحب أن أطمأن على الأبطال ... وكلي آذان صاغية .
قلت : الوقت ضيق ... والحكايات كثيرة ...
قال : أعطنى يوماً من صياحه وحتى المساء والغداء عندي .
.
.
ذهبت صباح اليوم التالي ... فقصصت عليه كل ما قصصته عليك في هذه السلسلة التي بلغت حتى الآن خمس عشرة مقالة من الصباح وحتى المساء فلم يقطع حديثي معه إلا القيام للصلاة أو كوب الشاي أو موعد الغداء فلما قضيت مأربي ... وارتويت من عينى أبي .... وغذيت من بشاشة وجهه وإنصات جوارحه وأردت الاستئذان عند المساء ... قام أبي رحمه الله إليَ فعانقني وقبلني ونظر إليّ نظرة عميقة أدركت أنها نظرة تحريض .... وقال بهمة وإصرار
.
.

"إن عــــــــــادوا .... فعــــــــــــــد..... "

.
.
مات أبي رحمه الله بعدها بعام واحد ..
وعادوا ..... والحمد لله ... وعدت ..... بفضل الله ....
وفي كل مرة أذكر وصية أبي ... وأتذكر قول الله تعالى : "إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم " يس
وأقول : هذا أثر من آثاره ..... رحمه الله رحمة واسعة ...

.

.