الاثنين، مايو 23، 2011

افرجها علينا ياااااااااارب

افرجها علينا يارب



ذات ليلة ونحن في سجن برج العرب سمعت صوتا رج الزنازين:



"بحق لا إله إلا الله...... افرجها علينا ياااااااااارب"



فتجاوبت معه بعض الزنازين...........:



يااااااااااااااارب



كان الصوت مرتفعا؛ يحمل من الضجيج والصخب أكثر مما يحمل من الدعاء، وكان تجاوب بعض المعتقلين معه يحمل مع الضجيج و الصخب خفة و استهتارا.



أظهرت غضبى واستيائي، وحدثت من حولي في هذه الإساءة، ولم أكن أعرف صاحب هذا الصوت الصاخب المجلجل.



في الليلة التالية سمعت نفس الصوت، وكان التجاوب بنفس الطريقة، لم أعلق، بينما نظرإلى بعض إخواني، وكأنهم ينتظرون تعليقا آخر، ونظرت إليهم ممتعضا صامتا.



وفى الليلة التى بعد تلكما الليلتين جاءنا الصوت الصاخب المجلجل، وتبعه التجاوب المستخف المستهتر، فإذا بأحد أخواني يقول: علي فكرة صاحب هذا الصوت هو صديقك الأستاذ "فلان".



عجبت: كيف يصدر مثل هذا؟؟



عن مثل هذا!!!



لقيته من غد، وقبل أن أفاتحه قال بأدب جم وباحترام شديد: بلغني اعتراضك علي ما كان مني ثلاث ليال متتابعات، وإني لمتوقف من الليلة، وممتنع من الآن؛ تقديرا لرأيك واحتراما لرغبتك، وإن اختلفت وجهات نظرنا، فوعدته أن نلتقي في مناسبة أخري قريبة لنتحاور بالتفصيل، فلما حيل بيني وبين ذلك آثرت الكتابة إليه:



بسم الله الرحمن الرحيم



أخي الحبيب الأستاذ "فلان"



السلام عليكم ورحمة الله



وبعد




فإنه لمن دواعي فرحتي وسروري، ومن أسباب سعادتي وحبوري أن أتواصل معك كتابة بعد أن حالت الأسوار بين المشافهة، ونعم القضاء قضاء الله، وخير القدر قدره، ولعل في الكتابة من الميزات والفوائد ما ليس في المشافهة، وإن كانت الأخرى أحب إلي القلب وأمتع للنفس؛ إذ بها تتلاقى الوجوه فتلذ الأعين برؤياها ناضرة، وتسعد الأرواح بها حاضرة، أضف إلي ذلك تغشي الرحمة وتنزل السكينة وحف الملائكة.



لكن الكتابة تتيح الفرصة بعد الفرصة لمراجعة النفس، وتردد القلب بين الصواب والأصوب وبين المثال والأمثل، وتحمل صاحبها علي انتقاء الأنفع من الألفاظ والكلمات والأرفع من الجمل والعبارات، ثم هي بعد ذلك تمنح القارئ فرصة التدقيق في المعاني، والتفهم للمقاصد، وإعادة قراءة الكتاب مرات ومرات، وتكرار تلاوته في مختلف الحالات حتى تنقدح الفكرة في ذهنه، وتستقر المعاني في قلبه، فيقبل بانشراح، أو يأبي بارتياح، فيرفع الكتاب فوق رأسه إن شاء أو يتخذه ظهريا، أو يلقيه حيث شاء من غير أن يؤثر ذلك سلبا في نفس صاحبه أو إيجابا في ضمائر الآخرين، ويبقي الود صافيا والحب نقيا وإن ذهبت الآراء مذاهب شتي وتنوعت الفكر حتى ........ وحتى......... وحتى .......



لقد بقيت كل يوم أمني نفسي بلقائك حتى خشيت غرور الأماني فعقدت العزم علي الكتابة ليلة الخميس فما غمض جفني إلا والكتاب مختوم.



أخي الحبيب الأستاذ "فلان"



سمعت ذلك الهتاف أول ليلة فتألمت منه، وقلت ما عندي بشأنه لمن حضرني من غير أن أعرف مصدره، ثم تكرر ذلك في ليلة تالية، فلما كانت الثالثة أخبرني بعض أحبتى أنه:"أنتم"؛ فتألمت لكم.



أخي الحبيب: لا شك أن النزول أيسر من الصعود، وأن الارتقاء شاق ومكلف، ومثال ذلك: تارك نفسه للنزول بفعل الجاذبية، وصاعد إلي أعلي مرتق سلما رأسيا؛ فالأول بلا جهد نازل وبأسرع ما يكون، والثاني متعب مكدود مرهق منكود تلهث أنفاسه ويتصبب عرقه، وكل لحظة من لحظاته دهر طويل وثوانيه ليست ثوان، وإنما هي ساعات.



ولا شك أننا مأمورون بالنظر في أمر الدين إلي من هو فوقنا، وبالنظر في أمر دنيانا إلي من هو دوننا، حتى نظل مترفعين عن الدنايا مرفوعين لأعلي عليين، وليس لارتفاعنا من سقف دون عرش الرحمن، وليس لصعودنا من نهاية سوي مرافقة الأنبياء، وليست تلاوة القرآن يوميا وإعادة الختمة علي الأقل مرة شهريا إلا لون من ألوان النظر الدائم إلي المثال الأعلى والتطلع المستمر إلي النموذج الأرقي، وويل لمن نظر إلي أسفل.



ولا شك أيضا أن وجهات النظر تختلف باختلاف الدوافع والأسباب وباختلاف الواقع المرئي، وكذلك باختلاف المآلات المتصورة والنهايات المتوقعة.



لذا وجب عند اختلاف وجهات النظر حسم هذه الثلاث والتباحث حولها بلا سأم ولا ملل -وإن طال الوقت- طالما كانت الفائدة مرجوة والعاقبة محمودة.



"ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله والتعاون علي الوصول إلي الحقيقة من غير أن يجر ذلك إلي المراء المذموم والتعصب". حسن البنا فى رسالة التعاليم.



وفرق ضخم -أخي الحبيب- بين وجهات نظر تختلف باختلاف المصالح والمفاسد فتتحمل أخف الضررين وتدفع أعلي المفسدتين، وأخرى تختلف باختلاف الأهواء ومطامع الأشخاص وتطلعات الراغبين في الرياسات وآمال الغارقين في الشهوات، ولا أحسب أن وجهات نظرنا إلا من النوع الأول، ونعوذ بالله من سوي ذلك.



كما أن وجهة نظر تؤيدها الشريعة أولي بالقبول عند الأتقياء من وجهة نظر لا سند لها إلا سيف المعز و ذهبه ، أو جزرة الحمار وعصاه.



كان لابن عمر في قاتل النفس فتويان:



الأولي: أنه يتوب ويجتهد في التوبة لعل الله يقبله.


والأخرى: أنه لا توبة له.



وليس ذلك عن هوي نفس أو نزغة شيطان ، ولكن الأول قد تلبس فلا يقطع عنه الرجاء، والآخر قد تنزه فيمنعه من سفك الدماء.



إن مما درجنا عليه حتى ألفناه أن:



"حسنات الأبرار سيئات المقربين"



وأن الناس منازل ودرجات، وأن ما كان مكروها فعله من العوام كان من الدعاة أشد كراهة، وهو عند الفضلاء ومن يتأسي بهم يوشك أن يكون حراما وممنوعا، وأن ما كان مستحبا من عامة الناس فعله كان من الدعاة أشد استحبابا وهو في حق الفضلاء ومن يتأسي بهم واجبا ومفروضا.



فلو أن أحدا من الفضلاء كان يدعوا الله بآداب الدعاء العشرة ثم ترك منها يوما أدبا واحدا لاعتبرناها هفوة وعاتبناه، ولرأيناها عثرة فأقلناه.



ولو أن أحدأ من العوام كان يدعو البدوي أو البوصيري أو الدسوقي، ثم تحول فدعا الله تعالي بلا أدب يعرفه لاعتبرناها نقلة فشكرناه، ولرأيناها إحسانا فأثنينا عليه وأثبتناه، لا لترك الأدب ولكن للتحول عن الحرام إلي الحلال، ثم لصحبناه ولا نزال نرتقي معه وننظر إلي أعلي؛ إلي المثال الأوفى والنموذج الأرقي؛ ونحن نعلم أننا لن نبلغه، ولكن شرف المحاولة ليس بأقل من شرف الوصول.




والآن دعني أفتح قلبي وأطلق لقلمي العنان لنتذاكر سويا بعض ما تعلمناه من آداب الدعاء، ومذاكرة العلم تسبيح وصلاة، وقد تري من وجهة نظرك أن كثيرا مما ستقرأه الآن لا علاقة له بموضوعك، فأنت وذاك.



وإنى لمعترض علي ما سمعت من هتافك:



"بحق لا إله إلا الله...... افرجها علينا ياااااااارب"



واعتراضى من جهتين:



الأولى: من جهة اللفظ والمعنى




والأخرى: من ناحية الشكل والصورة




فأما الاعتراض علي اللفظ والمعني فيشمل أمرين:



الأمر الأول:



إنه ليس لنا علي الله من حق إلا ما أوجبه هو علي نفسه تلطفا بعباده ورحمة بهم وتطمينا لضمائرهم ومخاطبة لهم بما يعرفون من لغتهم، فإن اللغة قد وضعت لمعان بشرية بحتة؛ فإذا استعير بعضها لمعان إلهية ربانية فإنما هي لتقريب معناها إلي أفهام البشر، ولكنها ليست علي حقيقتها التي تعارف الناس عليها، وإلا فكيف للفظ مخلوق وضع لمعاني البشر المخلوقين أن يحيط بوصف إلهي أو بمعني رباني.



مثال ذلك:



قال النبي صلي الله عليه وسلم لمعاذ وهو رديفه: يا معاذ أتدري ما حق الله علي العباد؟ قال معاذ: الله ورسوله أعلم، فقال صلي الله عليه وسلم: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ثم قال: يا معاذ أتدرى ماحق العباد على الله إن هم فعلوا ذلك؟ قال معاذ: الله ورسوله أعلم، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: فإن حقهم ألا يعذبهم بالنار.



فإذا كانت كلمة: "حق" في معاملات العباد بعضهم بعضا تعني الحق المكفول الذي يطالب به صاحبه بقوة وجرأة وشجاعة، ويسأل المقصر عن الأداء ويكون موضع اللوم والذم والعقوبة، ويقول صاحب الحق بكل صراحة: "هذا حقي" فإن هذا لا ينطبق علي الله، فليس للعباد حق بهذا المعني، يقول النبي صلي الله عليه وسلم: "لا يدخل أحد الجنة بعمله"، قالوا: حتى أنت يا رسول الله، قال: "حتى أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل".



وهل وفيناه حقه حتى نسأله الوفاء؟؟!!


أو لم تكن لنا سقطات وعثرات وأوقات عجب وأزمنة رياء؟؟!!


وهل لم يوف حتى سألناه الوفاء؟؟!!


وهل وفاؤه واجب عليه!! أم محض فضل ومنة وعطاء!!



سل الله فضلا ولا تسأله حقا



وأما الأمر الآخر:


فإن هذا الحق الذي أوجبه علي نفسه سبحانه مجازا ليس هو شئ في الدنيا وإنما هو:



"ألا يعذبهم بالنار"



فليس من حق لا إله إلا الله ألا يبتليك أو أن يخرجك من محبسك أو أن يكثر مالك وولدك، فليست الدنيا دار جزاء وإنما هي دار عمل، وإلا فإن من هو أصدق منك في قولها ومن هو أخلص منك في اعتقادها قد ألقي في النار، أو أخرج من وطنه طريدا ملاحقا، أو قتل ووضع رأسه في طست من ذهب مهرا لبغي، أو نشر بالمنشار حتى سقط شقاه، أو مشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه.



أما "حق لا إله إلا الله" فيجوز أن يسأل بعضنا بعضا به؛ لأنها التزامات هذه الكلمة وحقوق العباد وواجباتهم تجاه بعضهم بعضا المترتبة علي قولها واعتقادها:


"حق المسلم علي المسلم خمس: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا مرض فعده".



وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" أي ما يترتب علي قائلها من واجبات والتزامات تجاه مجتمعه وأمته.


فالأمر الآخر من الوجه الأول يأبي علينا أن نعتقد أن الفضل في الخروج يوما من المحبس.



لقد كان لي صديق حبس عاما في1981، ورفل بعدها في النعيم، وذات يوم كان يقص علي أحداث ذلك العام فتنهد في حسرة قائلا: كنت وقتها في عافية أنا اليوم أحوج ما أكون إليها، كنت بين الجدران في عافية أفتقدها اليوم وأنا بين أهلي وزوجي وولدي؛ إن العافية هى عافية القلوب والنفوس وليست مجرد عافية الأموال والأبدان".



يقول البوصيري:



صلاح أمرك للأخلاق مرجعه فقوم النفس بالأخلاق تستقم


فالنفس من خيرها في خير عافية والنفس من شرها في مرتع وخم.



العافية إيمان بالله ومعرفة به تورث القلب سكينة وتسكب في النفس راحة وطمأنينة حتى يصير صاحبها مع الله وهو بين الناس، يظنونه معهم وهو في الحقيقة لم يبرح رحاب مولاه، ويحسبونه لم يفارقهم وهو في نفس الأمر قد سبقهم إلي رضاه، وارتقي المدارج إلي علاه، بينما هو يأكل مما يأكلون منه ويشرب مما يشربون، وربما ضاحكهم فضحكوا أو تراه بينهم وهم يلهون فتظنه من اللاهين.



سل الله العافية بصدق ودع الله يختار لك مكانها وظروفها، وليست العافية فراشا وثيرا ولا ثوبا قشيبا ولا هي طعاما هنيئا مريئا، وإنما العافية قلب يذكر الله حتى يطمئن، ونفس تلوم صاحبها حتى تطمئن، وجسد يجهد في سبيل الله حتى يطمئن.



سل الله العافية بصدق ودعه يختار لك ثوبها، فما نزلت البلوي إلا لعافيتك وقد يمنحك أجرها، وإذا كان الحبس بلوي فقد يكون الخروج بلويان والمعصوم من عصم الله.




وأما اعتراضي علي الشكل والصورة:



فليس الأمر مجرد هتاف وإن وصفته بذلك بداية كتابي إليك، وإلا فهو ذكر ودعاء يخرجه ارتفاع الصوت عن مقصده فيذهب بما فيه من جلال وهيبة وخشوع.



(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (لأنفال: من الآية2)


(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (لأعراف:55) (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (لأعراف:56)


فهل رفع الصوت تضرع؟؟!! وهل يصاحبه خوف وطمع؟؟!! ثم أضف إلي ذلك ما في رفع الصوت من ضياع هيبة المنادي حتى نهي الله عنه إذا تعلق بحضرة نبيه صلي الله عليه وسلم واعتبر فاعليه: "لا يعقلون" سورة الحجرات، فكيف إذا تعلق ارتفاع الصوت برب محمد صلي الله عليه وسلم؟؟!! وهل يقبل أحدنا أن يجهر الناس باسمه نداءً كلما طلبوه.



إن الرب يحب أن يرى عبده بين يديه منكسرا، وهي حالة قلب يعبر اللسان عنها برقيق الكلمات وينطقها الفم بخفيض الأصوات و حاني النبرات:



"إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان علي الفؤاد دليلا"



أخي الحبيب



إن هذه العبارة القصيرة زمنا البعيدة صوتا ومدي لهي: "الدعاء العريض" الذي حذر منه القرآن: "وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ" (فصلت:51)


ولم يقل "طويل"؛ فإن الدعاء الطويل مناجاة آلف وصوت محب راغب، وهو سنة نبينا صلي الله عليه وسلم الذي كان يدعوا الله دعاء طويلا يعدل قراءة سورة البقرة عندما يرقي الصفا أو يصعد المروة أو عند وقوفه بعرفات أو عند رمي الجمرات بين الصغرى والوسطي ثم بين الوسطي وجمرة العقبة، كل ذلك بآداب نبوية كريمة وأخلاق قرآنية عظيمة، وقد يعلو صوته ولكنه لا يرتفع وتلك نكتة بديعة وفرق جوهري يحتاج إلي متأمل.



وأما "العريض" فهي صرخة غريب ونداء نافر شارد ارتفع صوته وقصر زمانه فانتفت عنه صفة الطول ولم يبق إلا "العرض" المشين.



سمع النبي صلي الله عليه وسلم رجلا يدعو فقال: "عجل هذا"، فلما قضي الرجل دعاه النبي صلي الله عليه وسلم فقال: "إذا دعوت الله فاحمد الله أولا ثم صلي علي ثم سل الله حاجتك". وهذا دأب الخواص من الصالحين، أما الفضلاء ومن يتأسي بهم ومن باعوا أنفسهم لله فالثناء عندهم أولي من السؤال والحمد أجدر بهم من الطلب.



وقد روي النبي صلي الله عليه وسلم عن رب العزة سبحانه:



"من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل مما أعطي السائلين"



ودعاء الحال عندهم خير من دعاء المقال، والتفويض في اعتقادهم أبلغ من الإلحاح في التعيين وهذا دأب الأنبياء وأدب المرسلين:



أما تفويض أيوب فإنه لم يسال الشفاء، وإنما تلطف في عرض حاجته (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (الأنبياء:83) ففوض فأجابه الله (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء:84)


وأما زكريا فلم يسأل الولد ابتداء، وإنما سأل ناصرا ومعينا وحليفا يعين علي الدعوة: ( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) مريم الآية5، 6؛ فلما رأى الآيات الباهرة فى محراب مريم ومثلت القدرة أمام عينيه: "قال رب هب لى من لدنك ذرية طيبة" فاختار الله له أن يكون الولي ولدا من صلبه،



وأما يونس فلم يختر الخروج من بطن الحوت وإنما اعترف بذنبه وأقر بخطئه وأثني علي الله "وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ" (الأنبياء:87) ففوض فاختار الله له الخروج ( فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ) (الصافات:145)



وأما إبراهيم فلم يختر النجاة من النار وإنما قال: "علمه بحالي يغني عن سؤالي"..... " فأنجاه الله من النار "





وقبل الختام أخي الحبيب: أدعك مع طائفة من الحكم العطائية:



* إرادتك التجريد مع إقامة الله لك في الأسباب، من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب مع إقامة الله لك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية.



طلبك منه اتهام له، طلبك له غيبة منك عنه، وطلبك لغيره لقلة حيائك منه، وطلبك من غيره لوجود بعدك عنه.



ربما منعهم من الطلب حسن الأدب.



وأخيرا: فما أخذ منك إلا ليعطيك، فلا تنظر إلي ما أخذ منك فإنه الأدنى والأقل، وانظر إلي ما أعطاك فإنه الأعلى والأجل.



والناس في ذلك ثلاث:



ظالم لنفسه: لا يري إلا السلب والأخذ فهو نازل أبدا.



سابق بالخيرات: لا يري إلا المنح والعطاء فهو صاعد أبدا.



ومقتصد: يري السلب ويرقب العطاء، وقد يصبر حتى يبلغ ما يريد، أو لا يصبر فيعيد الله إليه ما أخذ منه، أو يعيده إليه، فيبدأ من حيث ابتدأ ويعود إلي حيث قد بدأ؛ من غير تقدم ولا ارتقاء، ولا صعود ولا هبوط.



ماأخذ منك لحاجته فإنه هو الغنى، وإنما أخذ مالا ينفعك ليمنحك مايرفعك، سلبك ماأنت عنه غنى ليعطيك ماأنت فقير إليه؛ولما كان المحل لايتسع إلا لأحدهما كان لابد من إفراغه أولا من التافه الأدنى ليملأه بعد ذلك بالقيم الأعلى، فاصبر على زمن الفراغ حتى يحين وقت الملإ، هذا إذا كنت مقتصدأ، أما السابق فقد امتلأ بالله فلا يفرغ منه أبدا، وليس عنده فراغ يمتلأ بغيره.



"قل الله ثم ذرهم"



ماذا فقد من وجد الله؟! وماذا وجد من فقد الله؟!




سبحانك اللهم وبحمدك


أشهد ألا إله إلا أنت


أستغفرك وأتوب إليك


والله من وراء القصد

هناك 6 تعليقات:

أمل حمدي يقول...

سبحان الله وبحمدك
ماشاء الله لا قوة إلا بالله
سدد الله خطاك وأثابك أخي ونفع بك اللهم أمين

تقديري لحضرتك

غير معرف يقول...

نعم الكلمات حقيقى
فننتو ابدعت
لكم كل جزيل الشكر

ابو حبيبة يقول...

بارك الله فيك استاذنا الكريم
ان في كلماتك من الأدب الجم الذي نفقده هذه الايام في علاقتنا مع الله عز و جل
نسأل الله عز و جل أن يغفر لك و يجزيك خير الجزاء اللهم آمين

ابو حبيبة يقول...

بارك الله فيك استاذنا الكريم
ان في كلماتك من الأدب الجم الذي نفقده هذه الايام في علاقتنا مع الله عز و جل
نسأل الله عز و جل أن يغفر لك و يجزيك خير الجزاء اللهم آمين

د.توكل مسعود يقول...

السلام عليكم ورحمة الله

وبعد

ماما امولة
شكرا على زيارتك الكريمة،قال النبي صلى الله عليه وسلم.. بلغوا عنى ولو آية فرب مبلغ أوعى من سامع

غير معرف
شكر الله لكم


أبو حبيبة
اللهم ارزقنا حسن العمل.دعواتك الصالحة اخى الحبيب



دمتم جميعا بعافية

غير معرف يقول...

لعل حكم ابن عطاء الله من المتن الصغير