ليست كرامات..... وإنما إكراميات -೩
"أمن يجيب المضطر إذا دعاه" سورة النمل آية 62
مكث أبى رحمه الله فى "طنطا" عاما، يسافر مساء كل خميس إلى "الإسكندرية" ليعود إلى "طنطا" ليلة السبت، حتى سئم -رحمه الله-.... سئم السفر..... والغربة..... والعزوبة.
اتفق أبى رحمه الله مع أمى على أن يستأجر لها غرفة رخيصة الثمن فى ضاحية من ضواحى "طنطا" لتقيم معه هناك.... وكانت.
عاشت أمى فى "كفرة هلال" مايقرب من عامين، وكان لها جيران من أهل "طنطا" لازالت تذكرهم بخير..... وتدمع عيناها عند ذكراهم.
عاشت أمى فى "كفرة هلال" مايقرب من عامين، وكان لها جيران من أهل "طنطا" لازالت تذكرهم بخير..... وتدمع عيناها عند ذكراهم.
حملت أمى حملها الثانى هناك... وجاء وقت الولادة....... وكان آخر يوم من شهر أغسطس،..... كان أبى رحمه الله قد تغلب على "نصف جنيه" بقى معه فى هذا اليوم الأخير من الشهر.... بعد محاولات عنيفة ومفاوضات قاسية مع الراتب.... لمدة شهر.
هم أبى رحمه الله بالخروج إلى وحدته العسكرية فى مدينة "طنطا" فأخبرته أمى أن آلام الوضع قد اشتدت.... وأنها قد اقتربت.
يقول أبى رحمه الله: ارتديت ملابسى العسكرية، وصليت ركعتى الحاجة، ثم طرقت باب جارتنا.... وتنحيت جانبا، فلما فتحت الباب ألقيت عليها السلام فردت ورحبت.... فأخبرتها أن جارتها قد ألم بها "وجع الولادة".... وأننى مضطر أن أذهب الآن إلى وحدتى العسكرية ولا أستطيع التخلف عن موعدى لأنهم هناك... "لايرحمون"
قالت المرأة: "توكل على الله يا ابوعلى، ربنا معانا ومعاها، إن شاء الله تيجى تلقاها قامت بالسلامة".
كان الوقت بعد الفجر..
يقول أبى رحمه الله: انطلقت أمشى فى الطريق، ولاأملك من الدنيا إلا هذا "النصف جنيه"، وأنا أقول لنفسى وأشكو لربى: ماذا أنا صانع، تركت المرأة بلا شىء..... لاأجرة القابلة.. ولا ثمن طعام تطهوه لهذه الوالدة... وليس فى البيت شىء سوى كسرات من الخبز... والملح... والزيت... والجبن القريش... والعسل الأسود.
يقول أبى رحمه الله: عرفت فى هذه اللحظة معنى الكرب، ورأيت لون الحياة الأسود، وتذوقت مرارة العجز، وشعرت بانكسار وذلة.... لم أر مثل ذلك فى حياتى...... وبينما أنا كذلك، والدمع يترقرق فى عينى.... إذ هبت نسمة هواء باردة..... كأنما كانت فى مكانى الذى أنا فيه..... لم تتجاوزه... ومع هذه النسمة أوراق تتطاير فى الهواء وتسقط حولى.... نظرت فيها فإذا هى عملات ورقية من فئة الشلن "الخمسة قروش"، والبريزة "العشرة فروش"، والربع جنيه "الخمسة وعشرين قرشا".
يقول أبى رحمه الله:
نظرت حولى فلم أر إنسانا... لا فى الشارع، ولا فى نافذة بيت أو شرفته.... حتى شرفات البيوت من حولى ونوافذها كلها مغلقة.... انحنيت أجمع الأوراق فى دائرة قطرها لا يزيد على المترين.... جمعت كل ما كان حولى من أوراق.... ثم وقفت أنظر فى دائرة أوسع... وألقيت ببصرى فى كل مكان فما رأيت إنسانا....... وقفت أعد المال.... ثلاثة جنيهات ونصف.... الحمد لله.... يكفى أجرة القابلة وثمن دجاجة للوالدة.... وغدا يأتى برزقه.
عاد أبى رحمه الله إلى البيت فطرق باب جارتنا..... فتحت الباب، وتأسفت... واعتذرت... وقالت: والله أنا فقط صليت الصبح بعد ما مشيت أنت... وكنت ذاهبة لتوى لأكون مع "أم على".
قال أبى رحمه الله: ليس من أجل هذا أتيت، ولكنى نسيت أن أترك لك أجرة القابلة وثمن دجاجة.... أما أنت فأجرك على الله.
قالت: وهل أنا إلا أختها..وهل أنت إلا أخى!
انطلق أبى رحمه الله مسرعا إلى وحدته العسكرية، وقضى هناك يومه وليلته، وعاد ظهر اليوم التالى.... ومعه راتب الشهر الجديد، ورزق المولود السعيد "مسعود".
كان ذلك سنة 1954
اللهم اغفر لأبى.... وارحمه.... وأكرم نزله... ووسع مدخله..... وأفسح له فى قبره.... وافتح له بابا إلى الجنة.
آميــــــــــــــــــــــــــــــــــن