الأربعاء، مايو 11، 2011

شفافية الحديبية

شفافية الحديبية





رأى النبى صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم أنه أتى البيت الحرام وأنه يطوف به، ولما كانت رؤيا الأنبياء حقا فقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن يتجهزوا للعمرة فأحرموا من ذى الحليفة ولبوا، وساقوا الهدى يحدوهم الشوق إلى البيت الحرام طوافا وسعيا وعبا من ماء زمزم، وكان ذلك فى ذى القعدة من السنة السادسة من هجرته صلى الله عليه وسلم.





بلغ النبى صلى الله عليه وسلم قريباً من مكة فبركت به ناقته فصاح المسلمون: "خلأت القصواء"!! أى انها بركت من شدة التعب والإعياء، ولكن الني صلى الله عليه وسلم الخبير بناقته دفع عنها التهمة وألقى عنها الشبهة فقال واثقاً: "ماخلأت القصواء وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة".





ليس من خلق القصواء أن تبرك عياً ولا أن تكف عن السير رهقاً، وإنما حبسها الذى حبس الفيل أن يبلغ البيت الحرام، وماحبسه إلا الله.





إذاً كان خروج النبى للعمرة وحْياً، وكان منعه من دخول مكة وحْياً، وهو المعصوم المبلغ عن ربه، هنا قال صلى الله عليه وسلم: "لاتدعونى قريش اليوم إلى خطة يعظمون فيها الرحم إلا أجبتهم إليها".





خرج من مكة رجال ليلقوا النبى صلى الله عليه وسلم الواحد تلو الآخر، وعاد كل منهم ليخبر قريشاً بما رأى وبما سمع من شأن محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين معجب مشدوه و حاقد مغرور؛ حتى جاء سهيل بن عمرو فاستبشر النبى صلى الله عليه وسلم بقدومه، ومضى سهيل يفاوض النبى صلى الله عليه وسلم على العودة من حيث أتى ومضيا يتفقان على الصلح:



أن يرجع محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه عامهم هذا، وأن يعودوا من قابل ليس معهم سلاح إلا سلاح الراكب السيوف فى أغمادها، وأن توضع الحرب بينهما عشر سنين، وأن يرد محمد من أتاه من قريش مسلماً، ولا تلتزم قريش برد من أتاها من عند محمد مشركاً، وأن من شاء أن يدخل فى حلف محمد وعقده دخل فيه، ومن شاء أن يدخل فى حلف قريش وعهدها دخل فيه.





رأى عمر رضى الله عنه فى بنود الصلح إجحافاً بالمسلمين فوثب إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: ألست رسول الله؟! قال: بلى. فقال عمر: أليسوا المشركين؟!... ألسنا المؤمنين؟!... ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟!... كل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: بلى....؛ حتى قال عمر: فلم نعط الدنية فى ديننا؟!... فيجيبه صلى الله عليه وسلم: أنا عبدالله ورسوله، ولن يضيعنى. فيقول عمر: ألست قلت لى أنا نأتى البيت ونطوف به؟!..... فيقول صلى الله عليه وسلم: أقلت لك العام؟!... فيقول عمر: لا... فيجيبه صلى الله عليه وسلم: فإنك آتيه ومطوف به.





أترى عمر أحرص من النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام وأغير عليه منه؟ّ!.. كلا وألف كلا.



أترى عمر أدرى بمصلحة المسلمين من النبي صلى الله عليه وسلم؟!... كلا وألف كلا.



أترى عمر تدخل فيما لا يعنيه وناقش مالا ينبغى نقاشه ومن لاينبغى مناقشته؟!.... كلا وألف كلا... ولو كان الأمر لنزل الوحى يعنفه، أو للامه النبى صلى الله عليه وسلم، أو لأنبه المسلمون، ولكن شيئاً من ذلك لم يكن.





إنه الحدث الضخم، والوقع الثقيل الصعب الذى لا تحتمله النفوس ولا تستوعبه الأفهام، ويستعصى على كثير من العقول.





لم يقنع عمر بمحاورة النبى صلى الله عليه وسلم حتى أتى أبا بكر الصديق رضى الله عنه فألقى عليه كل ما ألقى على النبى صلى الله عليه وسلم من أسئلة؛ فيجيبه رضى الله عنه بمثل ماأجابه صلى الله عليه وسلم... حتى قال له أبو بكر فى نهاية مطافه: هو رسول الله فالزم غرزه.


لم يلبث الاتفاق أن تم حتى أتى أبو جندل بن سهيل بن عمرو مسلما يرسف فى أغلاله يود أن يظفر بحماية المسلمين إلا أن النبى صلى الله عليه وسلم رده حسبما تم الاتفاق عليه فصاح الرجل: يامعشر المسلمين جئتكم مسلما فتردونى إلى المشركين يفتوننى فى دينى؟؟!! فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: إن بيننا وبين القوم عهدا وميثاقا، وإن الله جاعل لك ولمن معك فرجا ومخرجا.



إن الداخل فى هذا الدين لا غرابة يتحمل أعباءه ويؤدى تكاليفه، ويضحى بمصلحته الشخصية فى سبيل المصلحة العامة ويضحى بروحه ليفدى وطنه.





شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كتابة بنود الصلح فأملى علياً رضى الله عنه: اكتب باسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لانعرف الرحمن ولا نعرف الرحيم، ولكن اكتب باسمك اللهم. فأبى على أن يمحوها، فمحاها صلى الله عليه وسلم، وكتب على: باسمك اللهم. ثم قال صلى الله عليه وسلم: اكتب هذا ماعاهد عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو. فقال سهيل: لو علمنا أنك رسول الله ماقاتلناك ولاأخرجناك، اكتب اسمك واسم أبيك. فأبى على أن يمحوها حتى محاها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكتب على: هذا ماعاهد عليه محمد بن عبدالله سهيل بن عمرو.



رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم شكليات ومظاهر يمكن الاستغناء عن كتابتها بينما هى محفورة فى القلب مغروسة فى الروح، وحسبها على أصولاً وعقائد وجوهراً لايتم العقد إلا به.





كتب العقد وانعقد الصلح، وأراد النبى أن يتحلل هو وأصحابه من عمرتهم فأمر أصحابه أن يقوموا فيحلقوا رؤوسهم وينحروا هديهم فما قام منهم رجل واحد.





كان الحدث أكبر من عقولهم وأوسع من مداركهم فلم يتحملوه حتى ذهلوا عن أمر النبى صلى الله عليه وسلم، فلم يستجيبوا لما هو شرع ودين.





دخل النبى صلى الله عليه وسلم على زوجه أم سلمة فعرفت فى وجهه الغضب حتى سألت عن ذلك... فقال صلى الله عليه وسلم: هلك المسلمون... أمرتهم فلم يطيعونى.... فإذا بالمرأة الحكيمة العاقلة الحصيفة تطلب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ألا يلزمهم بأمره، وأن يخرج فيصنع هو مارآه صواباً ًوما أوحاه الله إليه من غير أن يحملهم على ذلك حملاً أو يرغمهم عليه إرغاماً فتقول: اخرج فاحلق رأسك وانحر هديك ولا تكلم أحدا منهم فإنك إن فعلت ذلك فعلوا.





وكأنها رأت رضى الله عنها أن العقول إذا اختلفت وأن القناعات إذا لم تتلاق فلا ينبغى أن يلزم أحد مخالفه بقناعته، ولكن ليعمل كل فريق بما ارتأى، وأن العمل الميدانى أقدر على تغيير القناعات وإقناع الأفهام أكثر ألف مرة من مجرد التنظير والمحاورات... حتى خرج النبى صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه ونحر هديه فلما رآه المسلمون قاموا يحلق بعضهم بعضاً، يكاد أحدهم يقتل أخاه من الغيظ.





حدث أكبر من العقول!!!!!







الحدث وحى... والآمر نبى.... والمأمورون هم أتباعه الأوفياء وأصحابه الكرام المبرءون من النفاق المبشرون بسكنى أعالى الجنان، لكنه الابتلاء والدرس لهم ولمن يجيء بعدهم.





مضى الأصحاب ومعهم النبى صلى الله عليه وسلم عائدين إلى المدينة المنورة فنزلت سورة الفتح: "إنا فتحنا لك فتحا مبينا". هنا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو بعض أصحابه ليتلوها عليه فما اختار إلا عمر, يقول عمر فدعانى النبى صلى الله عليه وسلم فقال : أنزلت على آنفا سورة "إنا فتحنا لك فتحا مبينا"





لقد علم النبى صلى الله عليه وسلم أن عمر لايزال متعباً مكدوداً وأن بنود الصلح والحرمان من الطواف بالبيت لازالت تكدر صفوه وتؤرق نفسه فأراد أن يذهب عنه كل ذلك أو بعضه، ولكن عمر لايزال مذهولاً فالحدث أكبر من كل عقل وأعظم من أن يدرك حكمته مخلوق، وأنى للبشر أن يدركوا حكمة الوحى، فقال عمر رضى الله عنه مستنكراً: أوفتح هو يارسول الله؟!.... فقال صلى الله عليه وسلم: إى والذى بعثنى بالحق إنه لفتح.





ومضى الجميع إلى المدينة.





حتى إذا مر الزمان وتدفقت الأيام ببركات االصلح ولمعت حكمه وأسراره عاد عمر إلى صوابه فنطق بالحكمة قائلاً: اتَّهموا الرَّأيَ على الدِّين, فلقد رَأَيْتُنِي أردُّ أمرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم برأيي, وما ألومُ عن الحقِّ، وفي رواية: : مَا زِلْتُ أَتَصَدَّقُ وَأَصُومُ وَأُصَلِّي وَأُعْتِقُ، مِنْ الَّذِي صَنَعْتُ يَوْمَئِذٍ مَخَافَةَ كَلَامِي الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ، حَتَّى رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا.



لم تكن محاورة عمر مع النبى صلى الله عليه وسلم ولا مع أبى بكر رضى الله عنه كافية لإقناعه، كما لم يكن الوحى القرآنى كافياً لإرضائه، لكن مرور الزمان وتقلب الأحداث هو الذى أقنع عمر حتى ارتاح قلبه واطمانت نفسه.





إن الزمن جزء من العلاج.



وأحياناً يكون هو العلاج.





والله من وراء القصد

هناك 4 تعليقات:

غير معرف يقول...

ما اعحب له ان هذه الامور كانت ثقيلة على سيدنا عمر وهو من هو ...فكيف تنزل على امثال ابناء الصحوة اليوم وهماضعف واقل فهما منه رضى الله عنه وارضاه ...تربت يداك يا معلم الناس الخير

أ / أحمد عبد المنعم يقول...

http://araawaafkar.blogspot.com/

د.توكل مسعود يقول...

السلام عليكم ورحمة الله
وبعد

معاذ عبيد

الحمد لله أنه كان "عمر" العبقرى الملهم ولو كان غيره لعذره الناس لقلة فهمه اما وهو "عمر" فيعذر من بعده كل الناس.


أ / أحمد عبدالمنعم
شكرا لزيارتك
قرأت مقالتك وعلقت هنك

Unknown يقول...

جزاك الله خيرا ... في الصميم !