أحبوا الموت..... (5)
منذ ربع قرن من الزمان:
رأيت الموت
دعيت لإجراء عملية ختان لابن واحد من الكبار، شقيقه عضو في مجلس الشعب، ومقرب جداً من الرئاسة، وكانوا يسمونه: "والي الإسكندرية"، وقد بسط نفوذه على ميناء الإسكندرية من شرقها إلى غربها.
حاولت إقناع والد الطفل بإجراء الختان في العيادة ولكنه أصر على أن يكون بالبيت مهما كانت الأتعاب؛ فحملت حقيبتي وتوجهت إلى بيت "الموعود"، وفي الطريق مررت بزينات وأنوار- أصوات الأعيرة النارية تكاد تصم الآذان.
أدخلت غرفة فارهة مكيفة، وبعد قليل جاء الرجل ومعه ولده – صبي في العاشرة تقريباً من عمره – وحيد والديه، ومدلل إلى أبعد الحدود، حاول ما يقرب من أربعة رجال أن يمسكوه، ولكن الولد قاومهم بعنف وسب الجميع بأقذع الألفاظ، وكلهم يضحكون وتبدو السعادة على وجوههم.
قلت: مستحيل ياجماعة ... لابد من إجراء العملية بالعيادة بعد إعطاء الولد حقنة مخدرة لأنه كبير السن، ويخشى حدوث مضاعفات.
عدت إلى عيادتى، وعادوا بعدى بحوالي عشر دقائق ....ومعهم "الموعود".
قمت بحقنه بحقنة مخدرة وأتممت العملية وحمدت الله، وبعد أن اطمأننت على مقاييس الصحة والعافية من الضغط والنبض وضربات القلب وسلامة الجرح قلت: ألف مبروك ياجماعة، عقبال الزفاف.
حملوه إلى بيته وبقيت في عيادتى أستقبل مرضاي..... وأستغفر مولاي.
بعد ساعتين...... وحوالى العاشرة مساءً اندفع باب غرفتي بشدة وسمعت صوت جلبة وضوضاء، نظرت أمامى فإذا بوالد "الموعود" وخلفه جمهرة من الرجال.
اندفع الرجل إلى غرفتي ووقف أمام مكتبي وقال مزمجرا ً في غير تحية ولا سلام:
" الولد ما قامش"
وتبعه ثان: "ولا بيتحرك
وتبعه ثالث: "ولا بيتنفس"
أسقط في يدي، ولكني أظهرت تماسكي وثقتي بنفسي.... قلت: روحوا هاتوه، فاستدار الرجل إلى من معه وقال لهم: "خليكوا قاعدين، ما حدش يمشي"، ثم أشار إلى اثنين منهم فصحبوه، وجلس الباقون محتلين جميع مقاعد الانتظار بالصالة، وبقي بعضهم واقفا ً.
أدركت أنني محاصر. .....عدت إلى مقعدى، ومكتبي بين يدي...... رفعت عيناي أنظر نحوهم فإذا كل العيون مصوبة نحوي .......... أنا أعلم من هؤلاء......؟!..... وأعلم سطوتهم ....وبطشهم..... وأن في جيب كل واحد منهم "مسدس" جاهز للضرب ......وأنه إذا أمر بإطلاق النار أطلقها.......... لايعرف القاتل فيم قتل .....ولا يعرف المقتول فيم قتل.
اتجهت بقلبي إلى ربي..... وظللت أستغفر الله في سري وأدعوه أن يكشف الغمة....... وإن كانت الأخرى فلتكن شهادة.
استرجعت ذنوبي وأخطائي.... وتصورت الموت.... والقبر.... والبعث.... والجنة... والنار..... ورأيت في سبع دقائق ما لو كتب لملأ سبع مجلدات.
دخل الثلاثة بعدها يحملون الجثة حتى ألقوها أمامي على منضدة الكشف..... وقام الجميع واقفين:
إكبارا لوالد "الموعود"...............!
أو إجلالا لتلك النفس المحمولة......!
أو استعدادا للانقضاض على.......!
كل ذلك ممكن ......استعنت بالله، وقمت لأفحص تلك الجثة وبي من الهم مالا يعلمه الا الله، ولكننى كنت قد أسلمت نفسي وفوضت أمري الى الله .....وصرت جاهزاً لأن أدفن قبل الغلام .!
ضربات القلب........مسموعة ومنتظمة
النبض.........محسوس ومنتظم
التنقس.........طبيعى ومنتظم
أمسكت بشحمة أذنه اليسرى.... وفركتها بين سبابة وإبهام يمناي.... فصرخ الغلام صرخة مكتومة وتلوى بجسده .........تنفست الصعداء...... وهمهم الناس جميعاً....
حبست دموعي وعدت إلى مقعدى في ثقة ظاهرة وقلت:
" الولد كويس . بس هو كان متعب ومرهق وانتقل من الإفاقة بعد زوال أثر المخدر إلى النوم العميق مباشرة ..."
شكرني الناس، واعتذر والد الغلام .....وغض طرفه حياءً مني.
حملوا غلامهم وانصرفوا، وجلست إلى مكتبي أرقب تتابع الأحذية والنعال وهي تغادر باب عيادتي حتى إذا اختفى آخر حذاء..... انفلت دمعي وخررت على الأرض ساجداً، وبكيت بحرارة... وبمرارة.
الحمد لله - فرصة جديدة ..وعمر جديد... وصفحة جديدة..." اللى فات مات "– سأبدأمن جديد – لعلي أعمل صالحاً ...ولكن هيهات هيهات ... أين أذهب من نفسي وهواى ... من يجيرني من شيطانى ودنياي.
سامحنى يارب.........إنما أنا إنسان......... وفى طبعى كثير من النسيان.
والله من وراء القصد.
هناك 10 تعليقات:
رداعلى رايت الموت:اخى الفاضل من توكل على الله فهوحسبه واهنيك على اسمك فهم من التوكل ويابختك برضاءوالدك وياهناك بدعاءالوالدةوصيهاتدعى لناالله يبارك لهافى عمرها.نشكرك والله يكفيك من شر مهنتك.ويزيدك علم ومعرفةويبارك لك فى اولادك
أخي : غير المعرف
آمين آمين آمين ...وإياك
وأن تكون هذه الساعة التي يغفر الله لنا فيها مع المتحابين في جلاله
جزاك الله خيرا يا دكتور
لقد وفقك الله في إختيار موضوع تذكر الموت
لعل ذلك يكون من روافع همتنا في رمضان
جزاك الله عنا خيرا
أخى أحمد
شكراً لمرورك،تشرفت بتعليقك،بارك الله فيك وأكثر الله أمثالك.
أسأل الله ان يبلغنا وإياك رمضان
أخي د. توكل
لقد تعرضت لمثل هذا الموقف مرارا
ومن الله علينا
(قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخيفة)
د.إيهاب
أعتقد أن التعرض للموت ثم النجاة آية ربانية تضع الإنسان غلى الطريق وتعيده إلى الجادة
أسأل الله لى ولك السلامة والعافية
أستاذي الفاضل
فعلا كلنا يفر من الموت
وقد قرأت على هذا الرابط موضوع جميل بعنوان "حدائق الموت"
http://www.islamdoor.com/k/222.htm
أرجو أن يعجبكم
أسأل الله أن يبلغنا وإياكم شهر رمضان
وأن يرزقنا فيه طاعة يرضى بها عنا
وأن يخرجنا منه وقد تقبل منا وغفر لنا ذنوبنا كلها
وكل عام وأنتم بخير
تقبل تحياتي واحترامي
أخى أبونظارة
دلك الله على الخير كما دللتنى
لا تنسنى من صالح الدعاء
استاذنا الفاضل جزاك الله خيرا على حسن اختيارك لموضاعاتك ونسأله عزوجل ان يجعله فى ميزان حسناتك
أخى أحمد
تشرفت بزيارتك،
أرجو مشاركتك فى الاختيار وأرحب باقتراحاتك
نفع الله بك
إرسال تعليق