الثلاثاء، يونيو 28، 2011

لماذا القرآن..9.ورد التدبر فريضة

ورد التدبر فريضة







"كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب"سورة ص







دبر الشئ: آخره، والتدبر: معرفة آخر الأمر والوقوف على نهايته، وتدبر الكلام : معرفة مقتضاه ومايؤول إليه؛ إنه التعبير الشائع الذى قد يستعمله أحدنا مع محدثه إذا أراد أن يحثه على الإفصاح عن المطلوب وتبيين المراد فيقول: "هات من الآخر".




ولما كان القرآن كلام الله؛ وكان تحت كل كلمة معنى بحيث لا يقوم غيرها مقامها، ولايدل على مراد الله إلاها؛ كان التدبر مهمة ثقيلة تستنفذ الوقت وتفنى العمر؛ حتى قال بعض الصالحين:




"لى ختمة أختمها كل أسبوع، ولى ختمة أختمها كل شهر، ولى ختمة ينقضى عمرى ولا أختمها".




ولعله أراد بختمة الأسبوع ورد تلاوته، وبختمة الشهر ورد صلاته أو إنصاته أو مراجعته، وبالأخيرة ختمة تدبر القرآن فإنه: "لاتنقضى عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد".







وللتدبر وسائله وأدواته التى لا يصح بدونها، ولا يكون تدبرا بغيرها؛ وإلا صار رجما بغيب وقولا على الله بغير علم، فالقرآن كتاب عربى؛ لا يمكن تدبره والوقوف على أسراره إلا بالوقوف على مدلولات الكلمات فى بيئتها العربية الأصيلة: بيئة الخيمة والقدر والأثافى، حيث البئر والحبل والدلو، وحيث الشاة والبعير، وحيث السيف والرمح والقنص والصيد، ثم معرفة أسرار تراكيب لغة العرب وألوان بلاغتهم وأصناف فصاحتهم، ثم إلمام بواقعهم وإدراك لأخلاقهم وطبائعهم، ومعرفة بالظروف والأحداث التى تنزل فيها القرآن؛ لتعلم كم كان النص دواءً، وكيف كان شفاءً، وإلى أى مدى نزل على قلوبهم بردا وسلاما.







قد تعتذر بأنها مهمة شاقة وأنه لامناص من التفرغ لها، أو يكون المرء قد نشأ منذ نعومة أظفاره عليها، أما وقد جف العود، وصرنا غرباء عن العلم، فأنى لنا تناوشه من مكان بعيد؟؟!!




وأقول لك: تلك حبائل الشيطان يلقيها فى طريقك، فالعلم يصل من قطعه، ويعفو عمن يهفو إليه، ولايزال المرء عالما ما طلب العلم، وأضرب لك مثالين:




عام وخاص.




أما العام: كانت أول مرة يرى الناس فيها الكمبيوتر فى الإسكندرية سنة 1984، عندما عقدت إحدى الشركات الكبرى فى منطقة محطة الرمل ندوة عن الكمبيوتر ودعت إليها أساتذة الجامعات ورجال الأعمال، ووقفوا أمام هذه الأعجوبة مشدوهين؛ قد مدوا أعناقهم وفغروا أفواههم، وأدركهم العجز، وظنوا أن كل ما فات من أعمارهم كان جهلا، وهم من هم: أساتذة جامعات ورجال أعمال.




ثم كانت الندوة تلو الأخرى، والدورة بعد الدورة، وحمل الراغبون أوراقهم وأقلامهم، وكنت ترى فى الحلقة الدراسية الواحدة الأستاذ فى كلية الطب وتلميذه قد جمعهما فى صف واحد حب الكمبيوتر، وربما كان التلميذ أكثر استيعابا وأدق فهما حتى انتحى بأستاذه بعد الدرس جانبا يشرح له ما استعصى على فهمه وما لم يدركه عقله، ثم استفاد الرجل من ولده، والمرأة من زوجها وصاحبتها، وصار المجتمع مع الكمبيوتر كالأوانى المستطرقة يفيض بعضها على بعض، وحتى أضحى الجهل بالكمبيوتر عيبا يستحيي صاحبه أن يعلمه الناس، وأمية يرغب أهلوها فى محوها وإزالتها، ولم لا وقد أصبح لازما لكل صاحب مهنة وحرفة حتى ربات البيوت والعاملات على الماكينات فى المصانع والبائعات فى دكاكين الملابس والأحذية والمفروشات.







وأما المثال الخاص: فهو "عم رضوان"؛ كان يعمل حارسا لمستوصف أم المؤمنين الخيري بالدخيلة سنة 1990، ولم يكن يربطنى به إلا السلام عندما ألقاه أو يلقانى. لفت انتباهى أنى لا أراه إلا حاملا مصحفه، إما أنه يقرأ قراءة خافتة، أو أنه قد أغلقه ووضع سبابته فاصلا بين ورقتين ليستأنف القراءة من حيث توقف آخر مرة.




دفعنى الفضول إلى محادثته:







قلت: عم رضوان!!




قال: نعم!!




قلت: لا أراك إلا حاملا مصحفك؛ إما قارئا وإما متحينا الفرصة لاسئناف القراءة، فما هذا التعلق؟؟!!




قال: أرأيت لو أن رجلا حرم الولد، ثم رزقه بعدما بلغ من الكبر عتيا؟؟!! كيف تراه يصنع؟!!




قلت: لا شك يتعلق به فلا ينشغل بسواه.




قال: فإنى لم أتعلم القرآن إلا بعدما كبر سنى وبلغت من العمر مبلغا!!




قلت: إذا فلتحك لى مفصلا ولتقص على مفسرا .




قال: كنت على رأس الأربعين، وكنت لا أعرف القراءة والكتابة، وكنت أدخل المسجد لأصلى فأرى الناس صغارا وكبارا؛ هذا يحمل مصحفا يتلو لنفسه، وذاك يتلو وغيره منصت إليه، فحزنت على نفسى حزنا شديدا حتى بثثت لصاحب لى وجدى وشكوت إليه حزنى، فدلنى على جماعة يعلمون الناس القرآن، لكن أميتى حالت بينى وبينهم، فقال هات كراسة وقلما وأعلمك كل يوم حرفا.




لم أكتف بحرف صاحبى؛ فكنت أختلف إلى المسجد حاملا كراستى وقلمى، أتصفح وجوه الناس وأتفرسها، ثم أختار أحدهم فأسأله أن يعلمنى حرفا..... ثم كلمة.... ثم جملا... وحتى صارت الكراسة كراسات، وبريت بعد القلم أقلاما، وصار الناس يعرفوننى؛ فلربما رآنى أحدهم وكان ذا شغل فقام منصرفا قبل أن أصل إليه، وقد أسمع صوتا: تعال يا عم رضوان، فإذا هو رجل يرغب أن يمنحنى وقته يبتغى الأجر ويحب أن يعلم فيعلمه الله، حتى أحسنت القراءة والكتابة، ثم انتقلت إلى القرآن فصنعت مثل صنيعى الأول.




قلت: كم سنة استغرقتك حتى أحسنت التلاوة؟!




قال: بدأت فى الأربعين، وختمت القرآن تلاوة وأنا فى الثامنة والأربعين.




قلت: وكم بلغت من العمر الآن؟!




قال: سبعين سنة بشهادة الميلاد، وثلاثين سنة بحساب تعلمى القرآن، فإنى أرانى ولدت بعدها ميلادا جديدا، وإننى الآن فى عز الشباب.




قلت: فإنى أحب أن أسمع منك القرآن.




فتح مصحفه واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم تلى تلاوة مرتلة مجودة كأجمل ما تكون التلاوة وأعذبها، ولكأنما نشئ عليها منذ الصغر، أو لقنها زمن الرضاع، فسبحان من يسره للذكر؛ ولكن أين المدكر؟؟!!




رحم الله "عم رضوان" وألحقنا به فى الصالحين.




اصنع أخى كما صنع الأستاذ الذى استفاد من تلميذه فتعلم الكمبيوتر، أو كما صنع "عم رضوان" فتعلم القرآن، ولا تقل: سني وشغلى ووجاهتى؛ تواضع للعلم، ولا تستح أن تسأل!! سيجيبك القليلون وينصرف عنك الأكثرون، لكنك ستصل إن شاء الله؛ احمل كراسة وقلما، وابدأ ولو بحرف يأخذك إلى كلمة، ثم إلى جملة، ثم تتوالى العبارات، وأول الغيث قطر ثم ينهمر، إنه منطق التراكم المستمر، وخطوات السلحفاة الوئيدة التى سبقت قفزات الأرنب البعيدة، إنها مسألة هم......وزمن.

والله معك.




وللحديث بقية




والله من وراء القصد

ليست هناك تعليقات: