لماذا القرآن..... 11
معرفة بعض أسرار التراكيب العربية
****الحذف:
قال تعالى:
"إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد" سورة فصلت
إنك إذا تأملت الآية لتبحث عن "خبر": "الذين كفروا بالذكر" فلن تعثر عليه، وهو مايعرف بحذف الخبر، قد يكون محذوفا للعلم به، أو لدلالة السياق عليه، أو للتهويل: إذ هو أعظم من أن يوصف، وأضخم من أن يذكر،فهو: لظى وسعير وزقوم، وماء صديد، ومطارق من حديد. إنه يمنحك الفرصة لتتخيله بنفسك، فيكون أدعى لحضور صورته ذهنيا، وثبوت استحقاقهم له عقلا وشرعا.
قال تعالى:
"ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا" سورة الرعد
إنه يفترض أن كلاما مكتوبا و كتابا مقروءا يسير الجبال ويقطع الأرض ويكلم الموتى، ثم لا يدلك أى كتاب هو؟! لتعمل فكرك، وتقدح ذهنك، ولترى بعينى بصيرتك أنه هذا القرآن، وذلك أثبت للمعنى وأنضج للفكرة من أن يدلك عليها أول وهلة. فلهذا حذف جواب أداة الشرط: "لو"
لقد أودع الله فى هذا القرآن قوة هى قوة الله، وقدرة هى قدرة الله، وسلطانا هو سلطان الله؛ لكنه سبحانه لم يشأ أن يجعل ذلك كله فاعلا فى الجمادات، ولا فى سائر الدواب ، وإنما جعله فاعلا فى قلوب بنى آدم ونفوسهم عندما يختارون فاعليته ويرضخون لسلطانه ويرغبون أن يقهروا تحت قدرته، عندئذ يمنحهم القوة التى تسير الجبال، والسلطان الذى يقطع الأرض، والهداية التى تحيي القلوب. عندئذ تكون قوة الله وقدرته هى التى تعمل فى الواقع ولكن من خلالهم، إنها القدرة تستتر بأمثال هؤلاء، فالواحد منهم كما قال قائلهم : يستر القدرة ويأخذ الأجرة.
****النكرة والمعرفة
يأتى التنكير للتعظيم أو للتحقير:
"ولتجدنهم أحرص الناس على حياة" سورة البقرة
"ولكم فى القصاص حياة" سورة البقرة
لقد وردت كلمة: "حياة" فى الآيتين نكرة، ولكن شتان بين حياتين: فهى فى الأولى حياة حقيرة ذليلة يحرص عليها اليهود ويودونها بأى ثمن، وفى الأخرى حياة كريمة تتهيأ للأمة من خلال إقامة القصاص؛ إذ يقتل القاتل فينتفى الثأر، ويعتبر مريد القتل فيكف؛ يدرك ذلك من السياق؛ إذ الحرص على الحياة لا يعقبه قط إلا المهانة، وإقامة الشرع لاتنتهى إلا إلى عزة و كرامة
*************************
إذا وردت الكلمة نكرة ثم أعيد ذكرها فى السياق نكرة فالأخرى غير الأولى، فإذا أعيدت معرفة ب: "ال" فهى هى:
"وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا" سورة مريم
"والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا " سورة مريم
التسليم الأول كان تسليما من الله على يحيى، ورد نكرة لإفادة التعظيم، فلما أعيد معرفا ب: "ال" تبين أنه نفس سلام الله الذى سلمه على يحيى؛ أخبر المسيح عيسى بن مريم أن الله سلمه عليه، لكن الأول كان إخبارا من الله لنا، والثانى كان وحيا من الله إلى المسيح عيسى بن مريم أخبرنا به المسيح عليه السلام.
"إن مع العسر يسرا* إن مع العسر يسرا". سورة الشرح
جاء كلمة: "العسر" معرفة ب: "ال" فى الآيتين فهو عسر واحد وجاءت كلمة: "يسر" فى الآيتين نكرة فدلت على أن الأولى غير الآخرة، فهما يسران مختلفان، لذلك قال الصحابة رضوان الله عليهم عندما سمعوهما: "لن يغلب عسر يسرين".
كم من اليسر حولنا، واليسر أصل المعايش، بينما العسر طارئ، ولكن بعض النفوس لاترى إلا العسر؛ والسر فى ذلك أنها جبلت على النظر إلى من فوقها مالا ووجاهة وسلطانا، وحرمت من أن تنظر إلى من هو دونها حظا وقسما، والسعيد من رأى اليسر كلما عسر، والموفقون لا يرون العسر ابتداء، فقد علموا أنه سبحانه إذا منع فهو عين العطاء، وأنه لا يقدر إلا الخير، ولا يقضى إلا بالحق.
فإذا أضفت إليهما:
"سيجعل الله بعد عسر يسرا" سورة الطلاق
أدركت أن كل عسر مرهون بثلاثة أيسار: اثنان معه وفى ذات وقته، وواحد بعده، فأنى لعسر أن ينال من مؤمن؛ إلا إذا كانت كبوة يرجى له بعدها النهوض والقيام.
"لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما*إلا قيلا سلاما سلاما" سورة الواقعة
إن القرآن ينقل لنا مشهدا من الجنة صوتا وصورة: أما الصوت ففهم من قوله: "يسمعون"، وأما الصورة ففهمت من التكرار: "سلاما سلاما"، إذ الأولى غير الآخرة، فلربما كانت الأولى سلاما من الملائكة، فبينما يسمعون السلام إذ دخل فريق من ملائكة آخرين فسلموا: "والملائكة يدخلون عليهم من كل باب *سلام عليكم بما صبرتم" سورة الرعد، أو أن السلام الأول من الملائكة والآخر من الله: "سلام قولا من رب رحيم" سورة يس، أو أنها فرق المؤمنين يتوافد بعضها على بعض يتزاورون فيسلم هؤلاء ثم يأتى غيرهم فيسلمون: "وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون" سورة الطور. فإذا أصوات التسليم تتردد فى أرجاء الجنة يمنة ويسرة؛ فسلام المؤمنين بعضهم على بعض، وسلام الملائكة على المؤمنين، ثم سلام الله عليهم أجمعين.
****صيغ تصريفات الأفعال
حتى صيغ تصريفات الأفعال في لغتنا الجميلة لها مدلولاتها!!
فالفعل الثلاثى اللازم يصير متعديا بالهمز أو بالتضعيف، فتقول: نزل الماء؛ أى بنفسه، وتقول: أنزل الله الماء أو نزل الله الماء؛ فلم ينزل بنفسه حتى كان الله هو الذى أنزله أو نزله، لكن بين "نزل" –بالتضعيف- و "أنزل" فرق كبير، فكل فعل تعدى بالهمز أفاد حدوثه مرة، بينما كل فعل تعدى بالتضعيف أفاد تكرار حدوثه.
تجد فى القرآن: "كتاب أنزلناه إليك" سورة ص، وتجد "نزل عليك الكتاب بالحق وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس"سورة آل عمران، فعند الحديث عن القرآن تجد: "نزل" بالتضعيف و "أنزل" بالهمز، فإذا كان الحديث عن التوراة أو الإنجيل لم تر إلا: " أنزل". ذلك أن التوراة والإنجيل أنزل كل منهما نزولا واحدا غير منجم أى غير مفرق، أما القرآن فكان له نزول سماوى من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا وهو المتحدث عنه ب: "أنزل" إذ نزل كاملا دفعة واحدة، وله نزول آخر وهو نزول جبريل به على قلب محمد صلى الله عليه وسلم منجما مفرقا حسب الحوادث والنوازل وهو المتحدث عنه ب: "نزل" بالتضعيف.
والآن تدبر هذه الآيات:
"نزل عليك الكتاب بالحق وأنزل التوراة والإنجيل"سورة آل عمران
"ياأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل" سورة النساء
"وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا" سورة الإسراء
"قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق......." سورة البقرة
"إنا أنزلناه فى ليلة القدر" سورة القدر
"إنا أنزلناه فى ليلة مباركة "سورة الدخان
"إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"سورة الحجر
وللحديث بقية
والله من وراء القصد
هناك 3 تعليقات:
انمايخشى الله من عباده العلماء.....جزاك الله كل خير
جزاك الله كل خير يا دكتور يا عظيم ولقد استوقفتني هذه الآية لسنوات ولما عملت بالحديد والصلب فهمت لم الحديد مع الكتاب والميزان فالمؤمن يتدرج في ايمانه درجات التزكية والتنقية كما يحدث مع الحديد ولن أطيل حتى نلتقي بإذن الله { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) }
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
( نص حكيم قطعا له سر ) كتاب الله .
جزاك الله خيراً يا أستاذنا الفاضل .
إرسال تعليق