إسناد القفا
..
الإسلام أعظم من أن يحيط به مخلوق ، والعلم أوسع من أن يجمعه رجل ، والفقه أجل من أن يختزل في عالم .
كان جدي رحمه الله قد درس الفقه المالكي ، وكانت كل آرائه في العبادات والمعاملات هي آراء مالكية .
كان رحمه الله إذا صلى وقف مستقبل القبلة .. منتصب القامة .. معتدلاً تمام الاعتدال .. ينظر دائماً إلى الأمام .
.
وكنت أرى الناس يصلون فيحنون رقابهم ؛ ينظرون إلى مواضع سجودهم ، كما يفتيهم بذلك العلماء إذا سألوهم : أين أنظر وأنا أصلى ؟
: في موضع سجودك .
.
وسألت جدي ذات يوم : لماذا لا تنظر في موضع سجودك وأنت تصلى ؟! لماذا تنظر دائماً إلى الأمام ؟!
فقال رحمه الله : أنا آخذ برأي مالك رضى الله عنه .
.
هل كان جدي رحمه الله مقلداً صرفاً ؟! أم كان يعرف دليل مالك وأدلة الآخرين واقتنع أن مالكاً هو صاحب الرأي الصحيح ... أو على الأقل .. صاحب الرأي الراجح ؟!!
هذا مالا أعرفه ، ولم أسأل عنه ، ولم يخبرني .
.وتوفي جدي رحمه الله ... وعرفت بعد ذلك مجالس العلماء ، وخطوت نحو العلم خطوات .. وتصفحت مراجع الفقه وكتب التفسير .. فوقعت ذات يوم عليها .
.
إن مالكاً رضى الله عنه يرى أن النظر في موضع السجود هو اجتهاد من بعض الصحابة أو التابعين ، وهو يتنافى مع تمام القيام الذي أمرنا الله به حيث قال : "وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد " الأعراف 29
وقال: "وقوموا لله قانتين " البقرة ، وقال: "خلقك فسواك فعدلك " الانفطار7
فتمام القيام وكمال الاعتدال يقتضيان النظر إلى الأمام واستقامة العنق مع الظهر
.وغيره من الأئمة يقول: إن النظر في موضع السجود أقرب لإدراك الخشوع الذي هو روح الصلاة ، وبعض أصحاب هذا الرأي تجده يقول بعدها : ولا شك أن تمام القيام والنظر إلى الأمام أفضل لمن يقدر عليه .
.
ومرت شهور .... وسنون وبينما كنت أقرأ في كتاب من كتب الرقائق يذكر فضل قيام الليل إذ وقعت على هذا الحديث :
"وقيام الليل شرف المؤمن ... ومطردة للداء عن الجسد " رواه الترمذي
ووقفت طويلاً عند كلمة "مطردة" فوجدتها تعنى أمرين ؛ أولهما : أن الداء قد يزحف أو يتسلل إلى الجسد وقيام الليل يطرده، وثانيهما : أن الداء قد يكون فعلاً في الجسد ... وقيام الليل يطرده .
.إنه وقاية .... وعلاج
.
ولكن : كيف ؟ وما العلاقة بين الصلاة التي هي قرآن ودعاء وخشوع وبين الأدواء التي تبرح الإنسان ؟!
.
ولكني سلمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصدقت بحديثه ، وتناولته بكمال الرضا ... إذ العبادات توقيفية ، وقد لا يعقل معناها ، وقد لا ندرك الحكمة من ورائها .
." وفوق كل ذى علم عليم " يوسف 76
.ومنذ ثلاث سنوات وأنا أقرأ في كتاب "وحي القلم" للأديب المسلم البارع الفيلسوف الحكيم بلا منازع : مصطفى صادق الرافعي ، وفي رائعة من روائعه بعنوان : العجوزان .
.
يحكي قصة رجلين : كانا صديقين حميمين ... افترقا في سن الأربعين والتقيا وهما في سن السبعين ، فأما أحدهما فقد انحنى ظهره ، ولم تكفه ساقاه فاعتمد على ثالثة هى العصا ، ومشى يجر رجليه ، فإذا أراد القيام أو القعود : نظر إلى الناس من حوله ثم أشار إلى أحدهم قائلاً : "خذ بيدي من فضلك "
.
وأما الآخر فهو لايزال معتدل القامة ، رشيق القوام ، واسع الخطوة ، يصافحك فتشعر بعافية يده في يدك فتقول في نفسك " من منا العجوز " ؟!
.
ثم يبحث الرافعي ببراعة في حياة كل منهما ليخلص إلى أن سبب العجز والشيخوخة في الأول هو عادة طأطأة الرأس وانحناء القامة ، وأن سر الشباب والفتوة في الثانى هو عادة رفع الرأس وانتصاب القامة .
.
ويسميها الرافعي :
." إسناد القفا"
.ومعناه أن تسند قفاك إلى ياقة قميصك أو معطفك ، فإن الذين اعتادوا "إسناد القفا " هم أشفى الناس ، وآخر من يعرف الداء طريقهم . فلما تمثلتها ... وجدتنى أنظر إلى الأمام وقد استقامت عنقي مع ظهري ......
.
ثم استمعت منذ عام إلى الدكتور / عادل عبد العال - أستاذ الطب البديل- وهو يتحدث عن فضيلة اعتدال القامة فيقول :
ان اعتدال القامة يشد عضلات العنق والظهر والفخذين والساقين ، فتظل هذه العضلات قوية مفتولة مما يضمن سلامة العمود الفقري والمفاصل ويضمن سلامة الجهاز التنفسي ويمنع ترسيب الدهون وتراكمها ... فإنها تتراكم فوق العضلات المترهلة ....
.فقلت : سبحان الله .... صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم
غفر الله لجدي ...... ورضى الله عن الامام مالك
ورحم الله الرافعي ..... وحيا الله الدكتور عادل عبد العال
وصلى الله وسلم وبارك على معلم الخلق أجمعين وعلى الرحمة المهداة للناس أجمعين.
..
اكتملت هذه الصورة في نحو أربعين سنة
..