كل كلمة فى العربية وضعت لمعنى، وصيغت لمدلول لا يدل عليه غيرها، وقد تعبر الكلمتان عن مدلول واحد فتكون هذه لقبيلة وتلك لأخرى وهو الترادف، أو تحمل الكلمة معني عند هؤلاء وآخر عند غيرهم فيكون الاشتراك؛ لكن لاترادف ولا اشتراك عند قوم بعينهم.
إن الكلمة فى العربية ليست مجرد حروف تستطيع أن تستبدلها بغيرها، وإنما هى تعبير عن حدث يستغرق الزمان والمكان والأشياء، إنها صوت تسمعه يسرى فى وجدانك، وصورة تراها تتخلل مشاعرك؛ إن الكلمة فى العربية تحكى مشهدا أوتقص قصة أو تروى رواية، تكاد من خلالها تسمع وقع الأقدام وصليل السيوف وخرير الماء، بل تكاد ترى حبات العرق على الجبين، أو دم المخاض يسبق الجنين؛ وإلا فلم اقشعر بدنك ولان قلبك و دمعت عيناك؟؟!!ألكلمة قيلت!! أم لمشهد تراه و تسمعه !!
****النبط:
الماء الذي ينبط من قعر البئر إذا حفرت، ويستنبطونه: يستخرجونه، وأصله من النبط وهو الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر،
الاستنباط:
هو حفر البئر للحصول على الماء بعد حاجة الناس إليه، وأول ماء حصل عليه بعد الحفر هو: الماء المستنبط - بفتح الباء-، والذى حفر البئر وأخرج الماء هو: المستنبط - بكسر الباء -.
فإذا تم الحفر واستنبط الماء ورأى الناس صلاحه ووفرته هرعوا إلى دلائهم فأخذوا من الماء حوائجهم، فهم يستخرجون الماء ولا يستنبطونه؛ لكنهم على أية حال سعداء: المستبط المكدود الباذل جهده؛ لأنه تسبب فى رى ظمئهم وبل ريقهم، والمستخرج المعوز القاضى حاجته، وهم شاكرون لفضله مقدرون لجهده.
استعار القرآن هذه الكلمة للتعبير عن استخراج الأحكام من القرآن والسنة عند حاجة الناس إليها: "وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم" سورة النساء
فانظر إلى كلمة: "يستنبطونه" كيف صورت حاجة الناس إلى معرفة الأحكام فى النازلة، وجهد العلماء فى استباط الأحكام، وفرح الناس برفع الحرج عنهم ببركة هذا الجهد، ثم وجوب شكر العلماء والاعتراف لهم بالفضل إزاء مايبذلون.
ابتدع الأطباء الغربيون طريقة لمعالجة النساء اللاتي لايحملن لعيوب فى أرحامهن: تؤخذ نطفة الرجل وبويضة امرأته فتتلاقحان، ثم تزرع المشيجة فى رحم امرأة أخرى مقابل مال يؤدى إليها، وهو ماعرف بتأجير الأرحام.
هنالك برز سؤال احتار الناس فى الإجابة عليه: لأى من المرأتين ينسب هذا المولود؟؟!! ومن أمه؟؟ أصاحبة البويضة!! أم التى حملته فى بطنها، ثم ولدته واستهل منها صارخا؟؟!!
لم يكن لدى الأطباء جواب، وإنما استنبط الجواب من القرآن علماء المسلمين: "إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم" سورة المجادلة.
فالأم هى الوالدة، وليست مانحة البويضة، وسبحان من سماها: الوالدة، فقال: "والوالدات يرضعن أولادهن" سورة البقرة.
**** الجنف:
رجل أجنف أي منحني الظهر، والجنف عند العرب داء يصيب العمود الفقرى فييبس، ويرى صاحبه قد انحنى ظهره أو تقوس، فلا يكون انحناء العاطفة والحنو، وإنما انحناء المرض والداء، لكن المعافى قد ينحنى لغيره عطفا واهتماما، وحبا وإكراما.
أنزل الله آيات المواريث فأعطى كل ذى حق حقه، ومن ثم منع النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصى لوارث فقال: "إن الله أعطى كل ذى حق حقه فلا وصية لوارث"، لكن بعض الناس قد تسول له نفسه مخالفة الشرع بحجج واهية يزينها له أبالسة الإنس وأحيانا شياطين الجن، فقد يسئ ولد إلى والده بينما يحسن غيره، فيوصى الوالد للمحسن عطاء، أو يوصي بحرمان المسئ، وقد يكون للرجل ولد صاحب حاجة وفاقة بينما الآخرون معافون فيوصى لصاحب البلوى بمال يرفع به حصته من تركته، وقد يحيف فى وصيته فيترك مالا قليلا ويوصى ببعضه لبعض ذوى حظوته فيؤثر ذلك على أنصبة ورثته، أو يوصى بأكثر من الثلث وإن ترك مالا وفيرا.
فالدافع إلى الجور فى الوصية إما أن يكون انتقاما من بعض الورثة ورغبة فى إلحاق الضرر بهم: "إثما"، أو يكون حبا عارما وعطفا زائدا على الآخرين: "جنفا".
فانظر كيف استعار "الجنف" للعاطفة الشوهاء، إنه ليس حنو العاطفة الصافية ولا هى الضمة الحانية، وإنما هو انحناء المريض وتقوس الأجنف.
"فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم" سورة البقرة
****العنت:
كَسْرٌ بعدَ انْجِبارٍ، وذلك أَشَدُّ من الكَسر الأَوّلِ. ويقال للعظم المجبورإِذا أَصابه شيء فَهاضَه: قد أَعْنَتَه.
قال تعالى: "ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا بطانة من دونكم لايألونكم خبالا ودوا ما عنتم" سورة آل عمران
أراد القرآن أن يصور حرص أهل الكتاب على إفساد حياة المؤمنين وإيقاع الاضطراب فى كل نواحيها فأتى بلفظة: "العنت"، إن العنت ليس مجرد مشقة عارضة أو أزمة وقتية، وإنما هى إشكالات متتابعة تؤدى إحداها إلى الأخرى، وأزمات خانقة تتوالد من بعضها، وهو ما تصوره كلمة "العنت" : كسر بعد كسر.
إن أعداء الأمة يرتبون لها مشكلات لاتحل، ويوقعونها فى سلاسل من الأزمات اللانهائية، كل ذلك بطريقة مدروسة ومحسوبة : "ودوا ما عنتم".
****المراودة:
رادت الإبل ترود ريادا إذا احتلفت في المرعى مقبلة ومدبرة وذلك ريادها، ويقال: راد يرود إذا جاء وذهب ولم يطمئن، والرود: المهلة في الشيء، وفلان يمشي على رود أي على مهل.
"وراودته التى هو فى بيتها عن نفسه" سورة يوسف
لقد جمعت هذه الكلمة: "راودته"؛ صورة المجئ والذهاب والإقبال والإدبار كل ذلك فى تمهل غير مطمئن، إن الكلمة هنا حركة وصورة وصوت ومشاعر التقت جميعا لتصور حالة امرأة: "تراود فتاها عن نفسه". ألا ما أجمل القرآن!!!
****الكيد:
صياح الغراب بجهد، ويسمى إجهاد الغراب في صياحه كيدا، وكذلك القيء، والكيد التدبير بباطل أو حق، والكيد الحيض، والكيد الحرب، ويقال غزا فلان فلم يلق كيدا.
"فيكيدوا لك كيدا" سورة يوسف
لقد صورت كيف يدبرون مجتهدين ليخرجوا أسوأ ماعندهم ليلقوه فى طريق أخيهم محاربة له، فليس الكيد موقفا عارضا ولا هو شئ يحدث اتفاقا، وإنما هو مبدأ رسخ، وفكرة انقدحت، وأداء مرتب، وعاقبة منتظرة.
*****ضاق ذرعا
هى وصف للبعيرإذا ثقل حمله فضاقت خطوته، ثم استعير الوصف لكل إنسان ثقل حمله حتى كاد يعجزه، وزاد همه حتى كاد يقعده؛ فلما جاءت الرسل لوطا وخشى قومه الذين لاطاقة له بهم أن يتغلبوا عليهم فيفعلون بهم الفاحشة، فركبه من الهم ماركبه، ونزل به من الكرب ماالله به عليم؛ حتى شعر بالعجز الشديد، فوصف القرأن حاله تلك : "ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا"
وهكذا تستطيع أن تجمع كثيرا من مدلولات المفردات العربية ومعانيها من "لسان العرب" وغيره لتستمتع بمشاهدة وسماع المشاهد القرآنية: صوتا وصورة ومشاعر وأحاسيس؛ كل ذلك من خلال لفظة عربية وكلمة قرآنية.
وللحديث بقية
والله من وراء القصد
هناك تعليقان (2):
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاك الله خيراً أستاذنا أمتعتنا فى رحلة لغوية قرآنية ربانية ما أثراها وما أعظمها .
حياتى نغم
وعليكم السلام ورحمة الله
شكرا على زيارتك..... اللهم اجعلها نافعة
إرسال تعليق