النظام الاجتماعي
غاية مايطمح إليه المصلحون الاجتماعيون تحقيق المساواة وإذابة الفوارق الطبقية، فإن وجود الطبقات أمر محتوم، لكن وضع الحدود بينها وإحاطتها بالأسيجة نذير شؤم وعلامة على طريق الهدم.
يتسابق المسلمون إلى المسجد عند سماع النداء؛ فيكون جل هم أحدهم أن يدرك الصف الأول؛ فإذا بلغه حمد الله ونظر فى وجوه من حوله فسعد بهم وفرح بلقياهم، إذ أنهم يحملون الهم الذى يحمله وينشغلون بما هو به مشغول؛ لايغير من هذا الشعور أن يكون بينهم أشعث أغبر ذى طمرين أو عاجز يتهادى بين اثنين أو أمى لايحسن القراءة وقد يبلغ مراتب الإحسان، كما لا ينمي شعوره هذا أن يري عن يمينه ذا سلطان أو أن يكون عن يساره حاملا للقرآن، إنها لحظة التنافس على نيل الرضا والفوز بالحظوة عند من يقفون بين يديه، وكل من سبق إلى هذا الصف حبيب محبوب له فى نفوس المؤمنين خير المواضع وله فى قلوبهم أكرم المواقع.
إنها اللحظة التى تذوب عندها فوارق المال والجاه والسلطان وعافية الأبدان، والتى يبدأعندها الحب فى الله ثم لاينتهى، ويبتدأ المسلم فيها توقير المسلمين وإكرامهم على غير أنساب ولاأرحام ولاأموال، ثم لا يفتؤ هذا الشعور يزداد وينمو حتى يصحب المرء فيما وراء المساجد ومابعد صفوف الصلاة؛ فإذا هو مقدر لكل مسلم محب لكل مؤمن يرى غيره خيرا منه؛ إذ قد يكون من الذين يسبقونه إلى الصلاة أو على الأقل أن يكون ندا ومنافسا، فإذا التقاهم بعد ذلك فى ديوان أو جمعه بهم ميدان لم يكن التقديم والتأخير على أساس الطبقات أو الفئات، ولم يكن للواسطة والمحسوبية دور فى قضاء الحاجات، كما أن الرشوة غير واردة ولا مذكورة فى ترتيب الأولويات.
إن الفساد الاجتماعى والابتزاز الطبقى وانتشار الواسطة والمحسوبية وذيوع الرشوة فى المجتمعات نشأ أولا من هجر المساجد والابتعاد عن الجماعات؛ حتى رأى كل امرئ نفسه فى طبقة وفئة حسب أنها الأولى والآخرة، فلم ينتقل منها إلى غيرها إلا بعناء شديد وجهد جهيد، ولم ير لغيرها حقا فى حياة كريمة إلا مذعنا أو متملقا، وإن الفساد الإدارى الذى زكمت رائحته أنوف المصلحين لاسبيل إلى إصلاحه إلا بعودة الموظفين والعمال إلى أروقة المساجد وصفوف الصلاة، وحتى يعتاد أحدهم رؤية الضعفاء والمساكين إلى جانب الأثرياء والسلاطين، وقد يسبقونهم ويتقدمون عليهم، ولا حرج على فضل الله، فيعلم أن الناس سواسية كأسنان المشط، وألا فضل لعربي على أعجمى إلا بالتقوى، وأن قضاء حاجات الناس لاينبغى أن يخضع لمقاييس الأموال والجاه والسلطان والواسطة والقرابات، وإنما تبعا لأكثرهم حاجة وأعظمهم فاقة؛ فإذا تساووا فى ذلك فالأدنى والأقرب والأسرع وصولا والذى حرص على أن يكون فى أول الصف.
كنت أرى ذلك بوضوح فى كتيبتى العسكرية وقت أداء واجبى عندما يدخل القادة وأصحاب النياشين إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة ومعهم جموع الجند وضباط الصف؛ فينتشرون هكذا بلا ترتيب، ويتزاحمون بلا حواجز ولا تفريق، ويتركون أسبقية التجنيد وأقدمية التخرج على باب مسجد الكتيبة، ويدعون الرتب هناك أيضا وإن علت أكتافهم؛ إلا أنها نزعت من القلوب ولو مؤقتا وخلعت من النفوس ولو إلى حين؛ ثم تكون أعذب لحظات التواضع وأجمل أوقات التساوى عندما يعتلى المنبر جندى حديث أو ضابط صغير فيخطب فى الجميع بغير رتب ولا ألقاب، ويأمر الكبار والصغار بالمعروف وينهاهم عن المناكير، ثم ينزل إلى المحراب بعدما يدعوهم إلى القيام فيقومون خلفه، فيأمرهم بتسوية الصفوف ومحاذاة المناكب والأقدام، ثم يبشرهم جميعا: "استقيموا يرحمكم الله".
ماأجملها من صورة، وماأعذبها من حياة؛ كنت أقول لنفسي: ماذا لو انتقلت هذه الحالة إلى كتيبتنا بعد الصلاة؟! وماذا لو عشنا بهذه الروح فيما وراء جدران المسجد مع إعطاء كل ذى حق حقه وأداء كل لواجبه ؟!
النظام العسكرى
وهل العسكرية الحقة إلا قيادة وجندية، وسمع وطاعة، وضبط وربط، وعقول واعية وأبدان وعافية؟؟!!
فأما القيادة والجندية: فالإمام والمأمومون كما هى فى النظام السياسي وما يتبعها من سمع وطاعة.
وهل وقوف المصلين فى صفوف الصلاة بأقل من وقفة الجند فى صف المعسكر وطابور العرض بكل مافيه من وجوب اعتدال القامة: "وقوموا لله قانتين" سورة النساء، ومحاذاة الصفوف؟! إلا أن صفوف العسكر تحاذى دليلا عن اليمين أو اليسار، بينما صف الصلاة يحاذى دليلا هو خلف الإمام؛ فصف الصلاة يبدأ من خلف الإمام ثم ينتشر يمينا ويسارا كما ينشر الطائر جناحيه.
وهل ما يؤديه الجند من حركات منتظمة منضبطة تدل على يقظة الشعور وسرعة الاستجابة بأقل مما يؤديه المصلون خلف إمامهم من أول تكبيرة الإحرام وحتى التسليمتين ؟! إن مما يقتضيه فقه الصلاة أن المتخلف عن إمامه حركة كاملة تبطل صلاته؛ بمعنى أنه لم ينتقل مثلا من الركوع حتى شرع الإمام فى السجود، وماذاك إلا لأنه غافل عن متابعة الإمام إما تكاسلا وإما تباطؤا، وكلاهما لايليق بالجندية ولا يتفق معها، انظر إلى جماعة يصلون خلف إمامهم ترى حركاتهم أقرب إلى حركات العرض العسكرى انتظاما وانضباطا .
وهل نداء الصلاة بأقل من نداء الجمع الذى يتدرب العسكر ويتربون على امتثاله؟! وهل ينظر إلى المتخلفين عن نداء الجمع فى الوحدات العسكرية إلا كما ينظر إلى المتخلفين عن نداء الصلوات الخمس فى المساجد؟؟!! إنها التربية المستمرة على سرعة الاستجابة لنداء القائد الذى هو فى حقيقته نداء الأمة.
ثم هذا "الأذان" الذى هو نشيدنا الوطنى، و"التكبير" الذى هوشعارنا القومى؛ ما من أمة إلا ولها نشيدها الذى تتغنى به وشعارها الذى تهتف به، ولكن قل لى بالله عليك: كم مرة تنشد الأمة نشيدها؟! وفى أى مناسبة ترفع شعارها؟؟!! إن أمتنا تنشد نشيدها فى كل يوم خمس مرات، وتهتف بشعارها فى اليوم الواحد قرابة المائة مرة، وذلك فى سبع عشرة ركعة هى الصلوات المفروضة؛ فإذا صلينا النوافل والمستحبات وختمنا الصلوات ورددنا الأذان وأنصتنا إلى الإقامة بلغ عدد مرات الهتاف أكثر من أربعمائة مرة فى اليوم والليلة. إن الصلوات الخمس ماهى إلا خمس عروض عسكرية يستعرض المسلمون من خلالها قوتهم ويقيسون مدى قدرتهم على سرعة الاستجابة ورص الصفوف، ثم هم ينشدون نشيد وطنهم ويهتفون بشعار قومهم.
أبى الإسلام لاأب لى سواه وإن تاهوا بقيس أو تميم
وحيثما ذكر اسم الله فى بلد عددت أرجاءه من لب أوطانى
وللحديث بقية
والله من وراء القصد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق