ورد التدبر.....15علاقة الآيات المتوالية ببعضها..
"وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون*" سورة النحل 64
إن الهداية غاية إنزال القرآن؛ لينتقل الناس من الخلاف إلى الوفاق، ومن الضلالة إلى الهداية، ومن الغواية إلى الرشاد فتعمهم الرحمة، فيسعدوا فى دنياهم وأخراهم، وليس يرجى من القرآن غير هذا، ولا يرجى هذا إلا منه، فلن يهتدى الناس بغيره، ولن يسعدوا بسواه؛ إذ به حياة القلوب.
ثم تأتى الآية التالية:
"والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، إن فى ذلك لآية لقوم يسمعون" سورة النحل 65
أليس هو سبحانه الذى أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج كريم، فأسعدت الناظرين وأطعمت الجائعين وصارت متنزها للسائحين.؟؟!! فكذلك القرآن أنزله الله ليحيي به قلوب عباده؛ فيسعد بهم من رآهم ومن سمعهم ومن جالسهم، وإذا هم غياث الملهوفين وملاذ المستضعفين ونصرة المظلومين، وإذا أحدهم كالغيث حيث وقع نفع، وكالنخل يرميه الناس بالحجر فيلقى إليهم الثمر.
لقد شبه القرآن بالماء، وشبه الإنسان بالأرض، وإنزال القرآن بإنزال الماء، والتغير الذى يطرأ على الإنسان بسبب القرآن كالتحول الذى يحدث للأرض بسبب الماء.
ثم يقول: "وإن لكم فى الأنعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونه من بين فرث دم لبنا خالصا سائغا للشاربين" سورة النحل 66
كم فى الفرث والدم من قذر ونتن، بل كم فيهما من سم ونجس؛ لكن الله يخرج من بين تلك السموم والأقذار ومن وسط هذه النتانات والنجاسات طعاما وشرابا هو أكمل الطعام وأتمه: "لبنا خالصا سائغا للشاربين". نستطيع بالقرآن أن نغير نتن النفوس وسموم الأفكار وقذر الشعوب ونجاسة الأمم، فيخرج من بين ذلك كله نفوس كريمة وفكر قويمة وشعوب عزيزة وأمم زكية ينهل منها الآخرون ويرتوون، ولن يكون ذلك إلا بالقرآن سر حياة القلوب وبهجة النفوس.
وما كان واقع الناس إلا من صنعهم، حتى قال عمر رضى الله عنه: "الناس أشبه بزمانهم منهم بآبائهم وأمهاتهم"، يقصد أنهم يصنعون واقعهم الذى يعبر عن ثقافتهم وأخلاقهم، فإذا رأيت حياة كريمة طاهرة عفيفة فاعلم أن وراءها أناسا كراما طاهرين، وإذا صدمت بواقع آسن وزمان قاس فلا جرم أن الذين صنعوه كانوا رجالا غير أسوياء ونساء غاب عنهن الرجال، لذا جاءت الآية التالية لتدلنا على أننا نغير ماحولنا بأيدينا ونصنع واقعنا بأعمالنا:
"ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن فى ذلك لآية لقوم يتفكرون" سورة النحل 67
كل الثمار على الأشجار طيبة كريمة، وكل الأعناب تقطف لذيذة قويمة، لكن يد الإنسان تتناول ذلك كله فتعمل فيه عملها، كل ينطلق من ثقافته وخلقه؛ فهذا يصنع من العنب زبيبا أو عصيرا يغذى الآكلين ويبعث القوة والنشاط فى الشاربين، وذاك يجعله خمرا يذهب العقول ويخرب النفوس، وكذلك التين والتفاح والقصب وحتى القمح والشعير والرطب، كل ذلك تتناوله يد الإنسان فتحوله إلى الخير أو إلى الشر، الناس يصنعون واقعهم ويصوغون حياتهم ويرسمون مستقبلهم.
ثم ينتقل بك إلى آلية التغييرووسائل التحويل:
"وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون * ثم كلى من كل الثمرات فاسلكى سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن فى ذلك لآية لقوم يتفكرون"سورة النحل 68-69
كل المخلوقات تأكل وتشرب فتخرج قذرا وسما ونجسا-والإنسان أقرب مثال-؛ لكن النحل يخرج عسلا طاهرا يستشفى الناس به، فكن كالنحلة "لاتأكل إلا طيبا ولا تخرج إلا طيبا وإذا وقعت على شيء لاتكسره"
السر يكمن فى ثلاث: الانتقاء والعمل الدءوب وأن تبدأ من حيث انتهى الآخرون.
لقد بين القرآن الكريم وبينت سنة النبى صلى الله عليه وسلم أن الانتقاء سياسة النابهين وسبيل المفلحين، فما من خطوة إلا ومعها انتقاء، وأما خابطوا العشواء وحاطبوا الليل فقل أن يسلموا وإذا سلموا لم يغنموا.
فانتقاء الطعام:
"كلوا من طيبات مارزقناكم" سورة البقرة
"فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف" سورة الكهف
انتقاء الكيف:
فلينظر أيها أزكى طعاما؛ فيكون مما أحل الله وليس من المطعومات الحرام، ومما تم نضجه وأينع، طازجا بهيج اللون طيب الرائحة.
وانتقاء الكم:
فليأتكم برزق منه، قدر الكفاية، فلا هو بالقليل الذى لايفى ولا هو بالكثير الذى يثقل عليكم حمله وإذا طال زمانه فسد وتلف فلا أنتم الذين انتفعتم به ولا تركتموه ينفع غيركم.
وانتقاء الوسيلة:
وليتلطف، فينتقى بائعا هاشا وتاجرا باشا، ثم ليكن سمحا فلا يجادل فى الثمن ولايبخس البائع سلعته، ولا يكثر التقليب فى الطعام، وليجعل مازاد عن تقديره صدقة على البائع فإن خير الصدقة صدقة البيع والشراء.
وانتقاء الزوجة:
"فانكحوا ماطاب لكم من النساء" سورة النساء
وقوله صلى الله عليه وسلم:"تنكح المرأة لأربع؛ لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك"
فلتنتق صاحبة دين وخلق، وليس يعرف ذلك من مجرد حفظها للقرآن أوكثرة ترددها على المساجد، كما أن سابغ الثياب قد لا يدل على الدين، وإنما يستدل على تدينها بسيرتها فى أهلها وخلقها مع أبيها وأمها، فإن إحسانها لاحقك إن كان قد سبق إليهم، وما أنت بسالم من إساءتها إن كانت قد أدركتهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك فى مالك ونفسها" ولم يقل إنها حافظة القرآن سابغة الثياب مرتادة المساجد وإن كنا لانفرط فى شيء من ذلك.
وانتقاء الكلام:
"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت"
ومما أثر عن أبى الدرداء رضي الله عنه قوله : لولا ثلاث ما أحببت البقاء : ساعة ظمأ الهواجر ، والسجود في الليل ، ومجالسة أقوام يَنتقون جيد الكلام كما يُنتقى أطايب الثمر .
وانتقاء الصديق:
"المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"
وانتقاء الحكام:
"خير أمرائكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتدعون لهم وشر أمرائكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم"
وقال صلى الله عليه وسلم للأنصار فى بيعة العقبة الثانية: "اختاروا من بينكم اثنى عشر نقيبا"
وأما العمل الدءوب فسمت النحل وصفته حتى ضرب به المثل فقالوا: "فلان كالنحلة" إذا عرف عنه النشاط والدأب وعلو الهمة، ومع الدأب النظام والدقة والتفانى فى خدمة الجماعة وإنكار الذات والتخصص فى الأداء، فالراحة للرجال غفلة وللنساء غلمة، ولايدرك الراحة من لايعرف التعب؛.قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا فرغت فانصب" سورة الشرح
وأما الابتداء من حيث انتهى الآخرون فإنها لا تأكل إلا من الزهر والثمر، وهما آخر ماينبت النبات، وهما أجمل مافى حديقة وألذ مافى بستان: ألوان زاهية وطعوم شهية وروائح زكية.
دعك من تحصيل الحاصل، أو بتعبير جدتى رحمها الله: "يطحن الماء بالرحى" أو"يدق الماء بالهاون" أو أنه "يحرث الماء"...احرث لنا أرضا على أن تكون خصبة، أو اطحن لنا حبا على أن يكون قمحا، أو دق لنا بندقا وفستقا ولوزا وكثيرا من عين الجمل.
والله من وراء القصد
وللحديث بقية